ربطٌ عبر-تخصصيٌّ بين قصائدنا، و قوانينهم

قياسي

ربطٌ عبر-تخصصيٌّ بين قصائدنا، و قوانينهم

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

‏26‏/04‏/2022

أثناء قراءتي حول الأهمية التجارية للدروب/الطرق الرومانية القديمة، ربطت بين ما أقرأه و بين بعض ما نحفظه من القصائد العربية، و خطر لي أنه جرى العمل على أن نتعامل مع الشعر و الأدب من حيث هما شعر و أدب فقط، فيما أنا لا أرى ممارسةً أدعي لإجداب العقول و تضييق الآفاق مثل هذه.

لذلك، فلا بأس من تجاوز هذا التناول المدرسي الساذج للأمور، التي يظهرها دائماً مسطحة و خالية من أبعاد الزمان و المكان و العاطفة معاً، للقيام بمحاولة فكرية عبر-تخصصية للربط بين الأدب و اللغة و التاريخ و القانون معاً.

هنا تجربة:

في معلقته الشهيرة، قال ملك قبيلة كندة، الشاعر الجاهلي اُمْرُؤ القَيْس (الذي عاش في القرن السادس الميلادي و امتد سلطانه على قبائل كثيرة من الجزيرة العربية و حتى سوريا)، قال:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

و أيقن انّا لاحقان بقيصرا

فقلت لا تبكي عينك فإنما

نحاول مُلكاً أو نموت فنُعذرا

و كلمة “الدرب” هي في حقيقتها اسم علم لطريق مرصوف يصل بين بلاد الشام و بلاد الروم،[1] سلكه الشاعر للقاء الإمبراطور البيزنطي، ليستنصر به على قتلة والده حُجر بن الحارث الكندي – و هم بني أسد و من خلفهم المنذر ملك الحيرة. و يأتي هذا الاستنصار بإمبراطور الروم من حيث أن هناك شواهدٌ تاريخيةٌ تشير إلى أن بعض بني كندة كانوا مسيحيين، و ربما كان اُمْرُؤ القَيْس كذلك، إذ في سِفْره الكبير المعنون “تاريخ الرسل و الملوك” يورد الطبرى أنه “كان لعمرو بن عدى ابن يقال له إمرؤ القيس البدء، هو أول من تنصّر من عمّال الفرس”،[2] كما تشير المصادر البيزنطية إلى شخصٍ قريبٍ للحارث بن عمرو اسمه “كايسوس” (قيس) كان ملكاً على قبيلة كندة.

أما صاحب اُمْرُؤ القَيْس الذي يذكره في هذه الأبيات فهو “عمرو بن قميئة”، الذي كان أحد رفاق أبيه و الذي اشتكى من مشقة الرحلة قائلاً لاُمْرُؤ القَيْس: “غَرَّرتَ بنا”، ليجيبه هذا الأخير بعدها بتلك الأبيات من قبيل شدّ الأزر و التشجيع على مواصلة المسير، لا سيما و أن الرومان (البيزنطيون) كانوا يستميلون سادة القبائل العربية، و منهم اُمْرُؤ القَيْس، فيدفعون لهم الهبات و يجزلون لهم الأعطيات الكبيرة مقابل حراستهم حدود الدولة البيزنطية و معاونتهم على محاربة القبائل العربية الأخرى التي تُغير عليها.

و تأخذ الأمور – إذا ما نظرنا إليها من منظورٍ متشابكٍ مثل هذا نُدخل فيه الشأن القانوني على الشأن الأدبي – منحىً أكثر خصوبة عندما نعرف أن الإمبراطور البيزنطي الذي كان يقصده اُمْرُؤ القَيْس لم يكن إلا الإمبراطور جوستنيان، واضع المدونة القانونية المعروفة “كوربس جوريس سيفيليس”، التي تمثل الأصل التاريخي للقانون المدني كما ندرسه اليوم (سيتعرف كثيرون على جوستنيان عندما أشير إلى أنه هو الحاكم الذي تظهر صورته محاطاً بحاشيته في لوحة الفسيفساء الشهيرة في كنيسة “أيا صوفيا” في اسطنبول). كما أن مصادر بيزنطية تشير إلى بناء حصن عسكرى فى جبل سيناء لحماية مناطق جنوب فلسطين من هجمات العرب فى عهد الإمبراطور جستنيان، كما أن المصادر التاريخية تذكر أن الحارث بن جبلة الغساني، مؤسس حكم الغساسنة في بلاد الشام – قد قام عام 529 بحملة تأديبية ضد القبائل التي لا تدين بالنصرانية، و ذلك فى عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان،[3] و هي الشواهد التي تدعم،  في مجملها، أطروحة ذهاب أمروؤ القيس للقاء جستنيان على خلفية من هذه الاعتداءات.[4]

و على أية حال، فقد تمت الوشاية باُمْرُؤ القَيْس لدى الإمبراطور جوستنيان، فأرسل الأخير لللأول جبةً مسمومة، ما أن ارتداها حتى تقرّح جسده بشدة – حتى سُمي بذي القروح – فمات (و إن كان يقال أن ذلك ما كان إلا بسبب إصابته بالجدري في الطريق). على أية حال، فقد دُفن اُمْرُؤ القَيْس حيث مات، و قبره الآن يقع في مدينة أنقرة بتركيا.

و هكذا، فقد تطلّب الأمر منظوراً مختلطاً من الشعر و اللغة و التاريخ و القانون معاً لكي ننتهي إلى كشف علاقة بين شاعر جاهلي من عمق الجزيرة العربية و بين إمبراطور بيزنطيّ هو واضع القواعد المدنية التي ندرسها في كليات الحقوق.

نحن لسنا منقطعى الصلة بعدانا من الأمم؛ من يبحثون سيعرفون أن العالم كان مُعولماً حقاً من قبل يرفع قرننا هذا شعار العولمة.


[1] “كانت هذه الطرق هي الوسائل التي ينفذ بها القانون الروماني، و الأعصاب التي تصبح بها رغبات رومة إرادة الدولة بأجمعها. وقد أحدثت هذه الطرق في العالم القديم انقلاباً تجارياً من نوع الانقلاب الذي أحدثه إنشاء الطرق الجديدة في القرن التاسع عشر. وحسبنا شاهداً على عظمة هذه الطرق أن طرق أوربا في العصور الوسطى و في العصور الحديثة ظلت إلى أيام استخدام البخار في النقل أقل شأناً من طرق الإمبراطورية الرومانية في عهد الأنطونيين. لقد كان في إيطاليا وحدها في ذلك الوقت 372 طريقاً رئيسياً، 12000 ميل من الطرق الكبرى المرصوفة، وفي الإمبراطورية بأجمعها 51.000 ميل من الطرق العامة المرصوفة، فضلاً عن شبكة أخرى من الطرق الثانوية. وكانت الطرق الكبرى تسير فوق جبال الألب إلى ليون، وبردو، وباريس، وريمس، وبولوني؛ وكانت طرق أخرى تجري إلى فينا، ومينز، وأجزبرج، وكولوني، وأوترخت، وليدن؛ وكان ثمة طريق يبدأ من أكويليا محازياً ساحل البحر الأدريادي، ويصل هذه المدينة عن طريق إجناشيا بسلانيك Thessalonica. وأقيمت جسور فخمة لتحل محل القوارب التي كانت تنقل الركاب والبضائع في عرض المجاري التي كانت تعطل سبل الاتصال في الزمن القديم. وكانت توضع عند كل ميل في الطرق القنصلية شواهد حجرية تبين المسافة بين كل شاهد والبلدة التي تليه. ولا تزال أربعة آلاف من هذه الشواهد باقية إلى يومنا هذا؛ ووضعت على مسافات معينة مقاعد يستريح عليها المسافرون المتعبون”. انظر: ول وايريل ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران (بيروت: دار الجيل، 1988)، ص. 3456.

[2] الطبرى، تاريخ الرسل و الملوك، ج 1، ص 27.

[3] سلامة النعيمات و محمد النصرات، “السراسنة (Saracens) و علاقتهم بالامبراطوريتين الرومانية و البيزنطية (القرنين الثالث و الرابع الميلاديين)، دراسات العلوم الإنسانية و الاجتماعية، المجلد 38، العدد 2، 2011، ص. 644.

[4] سلامة النعيمات و محمد النصرات، “السراسنة (Saracens) و علاقتهم بالامبراطوريتين الرومانية و البيزنطية (القرنين الثالث و الرابع الميلاديين)، دراسات العلوم الإنسانية و الاجتماعية، المجلد 38، العدد 2، 2011، ص. 634.

About redab70

Eltibas ... I am a Law Professor at Kuwait University School of Law. This page was initiated due to popular demand (ie pressure exerted on me by my students at Kuwait University School of Law!). The philosophy behind this page is to serve as an extension to my classroom. Most of what you read here is based / a follow-up of topics previously discussed in my lectures. Academically speaking, my blog posts are my ‘footnotes’.

أضف تعليق