Monthly Archives: جويلية 2012

ابن سينا: “و نحن لا نبالي”

قياسي

د. مشاعــل عبــد العزيــز الهاجــري

Mashael.alhajeri@ku.edu.kw

25 يوليو 2012

يقول ابن سينا في كتابه “القانون في الطب”:

“علامة ابتداء المالنخوليا (أي: المزاج السوداوي) ظنٌّ رديء، و خوفٌ بلا سبب، وسرعةُ غضبٍ، … و قد رأى بعض الأطباء، أن المالنخوليا قد يقع عن الجن. و نحن لا نبالي من حيث نتعلم الطب، أن ذلك يقع عن الجن أو لا يقع بعد أن نقول إنه إن كان يقع من الجن، فيقع بأن يحيل المزاج إلى السوداء (أي: الاكتئاب)، فيكون سببه القريب هو السوداء، ثم ليكن سبب تلك السوداء جـِناً، أو غير جن“.

 إليك إذاً.

هذا ابن سينا، العالم و الفيلسوف و الطبيب المسلم المبرّز، الذي تعرفه جامعات الغرب باسم avicenne و الذي ما زالت مؤلفاته تستند إليها كتب الطب المدرسة في الكثير منها. إن الرجل “لا يبالي” – بعد تحديد السبب العلمي للمرض – إن كان هذا السبب يقع من الجن أو من غير الجن، ما دام قد أمكن تحديده علمياً.   و بذلك، فهو قد سبقنا، بحسه السليم، في التوصل إلى ما استقرت عليه المنهجية العلمية الآن من وجوب نسبة الظواهر دائماً إلى أسبابها القريبة، و من ضرورة إغفال كل ما يرتبط بتلك الأسباب من تفسيرات ميتافيزيقية أو رؤوية أو خرافية.

 تخيّل؛

لقد قال عالمنا (المسلم) مقولته العلمية هذه منذ أكثر من ألف سنة، أي قبل أن تُطلق في مدار كوكبنا أقمار صناعية معدنية، تمطر تلفزتنا البائسة بقذائف من قنوات فضائية، تبث موجاتٍ من خرافاتٍ تعتاش على هوامشٍ روحانيةٍ ملتبسة و منتقاة بخبث، لا يليق سردها إلا بأفّاقين مرتزقة، يتسامرون أمام نارٍ خابية،  محاطون ببسطاءٍ مبهورين، و جالسون في كهفٍ مظلمٍ … في العصر الحجري.

معنى أن تكون في أوروبا الحقيقية

قياسي

(للمصطافين: معنى أن تكون في أوروبا الحقيقية، لا السياحية):

“تسمع على مقعد في حديقة لوكسمبورغ نقاشاً طبياً، وعند زاوية هذا الرصيف يقص عليك عالم جيولوجيا اكتشافات التنقيبات الأخيرة. ويعبر بك هذا المتحف الطويل التاريخ كله بنصف ساعة. وترمي بك هذه الأوبرا التي يعيدون عرضها وسط أفكار انطفأت منذ نصف قرن. وتستعرض في أحد الصالونات كل الآراء الإنسانية بساعتين ( . . . ). فالفكر يخرج كالبخار من جميع هذه الأدمغة المشتعلة، فيتنشقه المرء عن غير قصد، وهو يلمع في كل هذه النظرات القلقة أو الشاخصة، وعلى هذه الوجوه المتغضنة والمتجعدة، وفي هذه الإيماءات السريعة والدقيقة. إن القادمين إلى هنا للمرة الأولى يصابون بالدوار، فهذه الشوارع كثيرة الكلام وهذا الحشد المستعجل لا يتوقف عن الركض، وهناك الكثير من الأفكار المعلقة في الواجهات والمكدسة على البسطات والمطبوعة في الصروح والمربوطة بالملصقات”.

– جاك رانسيير، “سياسة الأدب”.

إنتروبيـا؟

قياسي

د. مشاعــل عبــد العزيــز الهاجــري

Mashael.alhajeri@ku.edu.kw

20 يوليو 2012

من العبث محاولة تغيير بعض الأشخاص / الأحداث التي تحمل كل مؤشرات الميل للتحلل، البلى، و الإضرار بالنفس.

بالنسبة لي، هؤلاء الناس يُعرَفون / هذه الأحداث تُعرَف من خلال صفات العناد و عدم القابلية للتغيّر، تماماً بما يبدو و كأنه امتثال طبيعي للقانون الثاني للديناميكا الحرارية (Thermodynamics)؛ هذا القانون الأقل مرونة من جميع القوانين الفيزيائية القوانين التي اكتشفت حتى اليوم (و هو قانون مبدأ الإنتروبية Entropy أي كون الأشياء – إذا ما تركت في وسط معزول عن التأثير الخارجي – تميل بشكل ثابث للتحول من النظام الى الفوضى.

ما يعنيه ذلك هو أن الأصل في الجملة المادية هو الانتقال من حالة الانتظام إلى حالة أكثر تشتتاً و بعثرة فلا يمكن أن يحدث العكس، كما هو الحال مع الحجر الذي إن وقع من أعلى الجبل لا يمكن أن يتدحرج من الأسفل إلى قمة الجبل، و كذلك مع زجاجة العطر التي إن فتحتها خرجت منها جزيئات المادة العطرية فانتشرت في جو الغرفة، مع تعذر إعادتها إلى الزجاجة مرة أخرى، و المبدأ نفسه ينطبق على الذرة التي إن انشطرت و انفجرت على شكل قنبلة نووية فإنها لا يمكن بأي حال أن تعود و تتجمع على بعضها ككتلة و لا أن تلملم الطاقة التي تبعثرت منها، فلحصول ذلك لا بد من طاقة هائلة تمارس من الخارج فتضغط هذه الجملة المادية و تعيد ترتيب مكوناتها – و هذه على الأغلب غير موجودة.

و في السياقين الاجتماعي و التاريخي، يبدو لي أن هذا القانون يعتبر من القوانين العامة للحياة، إذ يقرر أن الأحداث – لا سيما التلقائي منها – تسير في اتجاه واحد فلا يمكن عكسها. بالنسبة لي، لا يعنى ذلك وجوب الاستسلام، و لكنه بالتأكيد يعني أنه متى ما ظهرت هذه الخصائص الإنتروبية واضحة، فلا جدوى من تضيع الوقت و الطاقة في محاولة تغييرها (على مستوى الأحداث، هل “الربيع العربي” مثال جيد؟ لا أدري. و لكن على مستوى الأشخاص، أعرف تماماً أننا نضيع الكثير من طاقاتنا و أعصابنا في محاولات يائسة لتغيير حياة من يهمنا أمرهم من الميالين لتحطيم ذواتهم، رغم أننا ندرك تماماً عبثية ما نفعله).

يتداول علماء الفيزياء هذه النكتة (السمجة؟) حول القانون الثاني للديناميكا الحرارية التي تقول أن طفل تفاخر أمام صديقه بقوله: “أبي يستطيع عمل أي شيء”، فأجابه صديقه: و هل يستطيع أبوك إعادة معجون الاسنان إلى التيوب؟”

تفجيراتنا الثقافية: الإنحدار حضارياً من خلال الصعود زمنياً

قياسي

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

14 يوليو 2012

أضرحة مدينة تمبكتو، جمهورية مالي الأفريقية

مدينة تمبكتو، جمهورية مالي الأفريقية

ما هي مشكلتنا، كمسلمين، مع إرثنا الثقافي المعماري؟

لماذا يصعب علينا أن نفهم حقيقة كون تنوع هذا الإرث هو ميزة، لا نقيصة؟

كلما تأملت ما فعلته جماعة طالبان (المسلمة) من تفجير تماثيل بوذا في مدينة باميان في أفغانستان، و هي التحف الفنية التي تمتعت بـ 15 قرناً من سماحة الإسلام، و عاصرت صرامة المغول في القرن الثالث عشر، و بل و بقيت أيضاً رغم معاداة الاحتلال السوفياتي للأديان،،،

و ما فعله الإرهابيون (المسلمون) من تفجير مراقد أئمة آل البيت ذات القيمتين التاريخية و المعمارية في مدينتي كربلاء و سامراء في العراق،،،

و ما تفعله الآن جماعة أنصار الدين (المسلمة) من هدم للأضرحة الإسلامية التاريخية في العاصمة الثقافية والتراثية لجمهورية مالي، مدينة تمبكتو ذات “الـ333 قديساً”، و هي المدينة التي تعتبر جوهرة الصحراء الكبرى لما تنطوي عليه جنباتها من روائع، حيث كل مبنى تقريبا يعتبر تراثاً من متاحف ومقابر و مساجد و مكتبات و مخطوطات تخلد ذاكرة الإسلام في المنطقة، إلى درجة بلغ منها أن منظمة اليونسكو قد قررت إدراج المدينة على قائمة التراث العالمي المهدد بالإندثار،،،

كلما تأملت ممارساتنا المازوشية هذه كمسلمين بحق تركتنا الثقافية الغزيرة، تذكرت ما قرأته إبان صباي في كتب السير:

    • من أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أوصى جيشه في غزوة مؤتة بقوله: ” … و لا تقطعوا نخلاً و لا شجرة، و لا تهدموا بناءً …”،،،
    • و من كون الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أعطى عهداً شهيراً الى أهل مدينة إيلياء (القدس) : “هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم، و أموالهم، و لكنائسهم و صلبانهم، و سقيمها و بريئها و سائر ملتها، لا تسكن كنائسهم، و لا تهدم و لا ينتقص منها، و لا من حيزها، و لا من صليبهم …”،،،
    • و من أن أحد قواد الخليفة العباسي المعتصم (المسلم) قد أمر بجلد إمام و مؤذن، لانهما اشتركا فى هدم معبد من معابد الهندوس، لتستخدم أحجاره في بناء مسجد مكانه،،،
    • و ما قرأته في موضع آخر من أن أحمد بن طولون (المسلم)، مؤسس الدولة الطولونية و أمير مصر و الشام، قد اعتزم بناء مسجده عام 263 هـ فأشار عليه المهندسون بأن مسجده هذا بحاجة الى ثلاثمائة عمود من الرخام، وانه لا يمكن الحصول على الرخام اللازم لتلك الأعمدة إلا من الكنائس و المعابد القديمة التي تملاً مصر، فأبى ابن طولون أن يُفعل ذلك، ثم قرر استبدال الأعمدة الرخامية بدعائم من الآجر ذات قدرة على مقاومة الحريق.

ما جدوى تاريخنا العظيم، هذا الذي أمضينا أجيالاً كاملة ندرُسَه و نُدَرّسه، إن لم نعتد الرجوع إليه كمخزنٍ عامرٍ نستقي منه الدروس، و نستخلص منه القيم الكفيلة بتجنيبنا كل هذه الممارسات المخزية، المسيئة بحق أنفسنا قبل أن تكون مسيئة للغير؟

منذ سنوات طويلة، قرأت نصاً معقداً للشاعر الفرنسي مالارميه (Mallarmé)، كان يتحدث فيه عما أسماه “التقدم نحو القهقرى”. لم أفهم قصده آنذاك. أما الآن، فأظنني فهمت ما كان يرمي إليه: نحن ننحدر حضارياً … صعوداً بالزمن.

حوكمة العمل الدعوي الديني: شيء من الشفافية، يرحمكم الله

قياسي

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

12 يوليو 2012

صيرت دينك شاهيناً تصيد به

و ليس يفلح أصحاب الشواهينِ

قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره

وقد فتحت لك الحانوت بالدينِ

  – الإمام القاضي ابن المبارك

 هل جميع مصادر الدخل لائقة، ما دامت لم تحصّل بطريق الحرام؟

 ماذا عن الخصوصية الروحية للدين؟ هل تقبل قيمة الدين الانحدار به إلى درجة التعاطي معه وفقاً لمنطق الربح و الخسارة الدنيوي الفج؟

 هذه مسألة تستحق وقفة جادة.

 لدي، مثل غيري، مفهوم عالٍ جداً للدين. يصعب علي قيمياً أن أراه يتحول على أيدي البعض من رجال الدين الطموحين مالياً إلى “مكدّة” حقيقية؛ صنعة، تجارة، مهنة، إوزة تبيض ذهباً:

قنوات فضائية، برامج تلفزيونية، عضوية لجان إفتاء، حملات إعلامية (مع صور عملاقة للداعية على حافات النقل العام لا يليق ما توحي به من نرجسية – حقيقةً – إلا بالممثلين أو لاعبي كرة القدم)، محاضرات، دورات، أشرطة، كتب، أناشيد، رسائل هاتفية مدفوعة، مواقع إنترنت مثقلة بالإعلانات التجارية، تنظيم رحلات سياحية للخارج، و العديد العديد من الأنشطة التي لا تتفتق عنها إلا ذهنية تجارية حقيقية.

 كل ذلك، من دون أدنى اعتبار لأية درجة من درجات الشفافية (transparency) أو الإفصاح (disclosure) و هي من أساسيات العمل المُحوكـَم (من “حوكمة” Governance) التي تبين لنا كجمهور مدى ارتباط رجال الدين هؤلاء بالمؤسسات و الأنشطة التي يروجون لها أو يرتبطون بها (لاحظ أن اعتبارات الحوكمة قد طبقت – إلى حدٍ ما –  في مجال العمل الديني الخيري المتعلق بجمع التبرعات بعد أحداث 11 سبتمبر، أما العمل الديني الدعوي فما زال أرضاً مكشوفة خالية من أية قواعد تنظيمية).

 لنتفق،

 الدين منطقة روحية، ينبغي ألا يتصدى لها إلا من يتصف بدرجة “معقولة” (حتى لا أقول “عالية”) من الزهد و الاكتفاء الروحيين. الطموح المالي أمر مشروع تماما، و لكن من يمارس طموحه المالي المحموم في منطقة الدين يعرّض نفسه – و يعرضنا معه – لدرجة خطيرة من تضارب المصالح و القيم ناهيك عن إلتباس الرؤية، لا سيما في ضوء التعمية و السكوت عن العلاقات التجارية و المالية التي تربطه بالأنشطة التي يروّج لها.

 دع عنك كل ذلك، و لنتحدث في الأهم: ماذا عن اعتبارات الحياء، القناعة، و التعفّف؟

 شخصياً، لا أجد في نفسي قبولاً أبداً في أن أرجع بمسائلي الدينية من فتاوى و استشارات إلى “رجل أعمال”، نصف عقله معي و النصف الآخر مشغول في موعد “جلسة التصوير للحملة الإعلامية الخاصة بـ …” و التي ستخدم الغرض الفلاني النبيل و في الوقت نفسه – و يا للصدفة – سيقبض عنها شيخنا 20 ألف دينار، ناهيك عن نسبته عن هوامشها الأخرى (لاحظ منطق المبيعات و التسويق المطبق هنا).

 رجل الدين الحقيقي – بالنسبة لي – هو شخص لديه صنعة يتكسّب منها، و بذلك يكون قراره مستقلاً و بعيداً عن شبهة الطمع أو الحاجة (مهندس، محامي، محاسب، طبيب)، فلا يمارس الأنشطة الدينية إلا على سبيل التطوع، أو على الأقل هو من يكون متفرغاً للعمل الديني الحقيقي – و إن كان مدفوعاً – لا الاستعراضي التسويقي.

 و الأهم من كل ذلك، أن رجل الدين الحقيقي هو من ينأى بنفسه عن مواطن الشبهات، فلا ينخرط إلا في الأنشطة التي تكون روابطه المالية بها واضحة و معلنة، و الذي يبادر بالإفصاح من تلقاء نفسه – و من دون سؤال مسبق قد يتحرج الناس من إثارته – عن مدى إستفادته من تلك الأنشطة، سواء كانت استفادته هذه استفادة مالية أو على شكل منافعٍ أخرى (خصومات، تذاكر سفر، امتيازات، أشياء عينية، إلخ).

 إفصاحاتٌ مثل هذه ينبغي أن تكون متطلباً لازماً، شيئاً مشابهاً لميثاق الشرف للمهنة (Code of Ethics)، بحيث تعلن في مقدمة كل برنامج تلفزيوني، على تغليف كل شريط، على غلاف كل كتاب، و في السطر الأخير من كل فتوى.

 من المؤسف فعلاً أننا صرنا نطالب بعض رجال الدين بما نطالب به التجار و رجال الأعمال من اعتبارات الحوكمة التي تعني الشفافية و الوضوح و الإفصاح و الإعلان و التدفق الحر للمعلومات و الاعتبارات المحاسبية، و لكن هذه الفئة من رجال الدين هي من انتقل بالعمل الديني من المستوي الروحي الرفيع إلى المستوى التجاري المادي، و لا بأس. و لكن ما دام الأمر كذلك، فليلتزم رجال الدين ممن يضعون انفسهم في مراكز ملتبسةٍ مثل هذه بقواعد العمل المنضبط المتبعة في الوسط التجاري الذين دخلوا – و أدخلونا معهم – فيه.

 و بعد، فإن كانت هذه الأنشطة تبرعية منهم و خالصة لوجه الله، فليعلنوا ذلك فيكونوا لنا المثل و القدوة في الزهد و التجرد – تماماً كما ينبغي لرجل الدين – و جزاهم الله عنا كل خير. أما إن كانت هذه الأنشطة و الروابط مدفوعة الأجر بشكل أو بآخر فلا بأس في ذلك و “بها و نَعِمَت” كما يقال، و لكن ليفصحوا لنا  فقط عن كونها مدفوعة حتى نفهم مدى ارتباطهم بالموضوع الذي يفتون فيه تحليلاً أو تحريماً أو لندرك حجم علاقتهم بالشركة التي يروجون لأنشطتها، و لهم بعد ذلك دعواتنا المخلصة بأن يبارك الله لهم في كل درهمٍ و دينارٍ منها – و لكن ليفصحوا.

 هكذا فقط ينبغي لرجل الدين أن يكون مستحقاً لثقتنا، باعتباره قد قرر التصدي للعمل في أكثر مناطقنا الروحية رفعةً و جلالاً.

 كان ما تقدم إشارة منهجية / قيمية لازمة، و مع ذلك، فالخير – إن شاء الله – في الكثير من العاملين في هذا المجال، و لا نزكي على الله منهم أحداً.

فالتر بينجامين: تقنية الكاتب في ثلاث عشرة أطروحة

قياسي

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

13 يوليو 2102

فالتر بينجامين مفكر و فيلسوف ألماني مقل إلا أنه مؤثر جداً و صاحب بصمة كبيرة. و السبب في ندرة كتاباته يعود إلى كونه مات في سنٍ مبكرةٍ نسبياً (48 عاماً) أثناء محاولته الهرب من القوات النازية مع مجموعة من الأصدقاء عن طريق الحدود الفرنسية-الأسبانية. هناك، قيل له أنه لن يستطيع عبور الحدود، فتناول القلم و كتب بضع صفحات أخيرة في نظريته حول تطور التاريخ، ثم انتحر بعدها بجرعة عالية من المورفين كان يحملها معه كضمانة لعدم وقوعه حياً بأيدي النازيين. المفارقة الحزينة هي أنه في اليوم التالي لانتحاره مباشرة فتحت الحدود، و نجا جميع من كان معه.

ما يلي هو تلخيصي لمنهج الفيلسوف الألماني فالتر بينجامين في الكتابة، و هو المنهج الذي أسماه “تقنية الكاتب في ثلاث عشرة أطروحة”:[1]

1) على من يعتزم كتابة عمل ضخم، أن يتمهل وألا يضن على نفسه فور أن يكتمل الواجب الكتابي الثقيل، بكل ما لا يعوق استمرار العمل .

2) تحدث إذا شئت عما اكتمل، لكن لا تقرأ أي مقطع منه للآخرين أثناء استمرار العمل. فكل شعور بالرضا ستناله بهذه الطريقة سيبطئ من إيقاعك. و باتباع هذا النظام ستصبح رغبة التواصل التي تتصاعد دون توقف دافعا على إنجاز العمل في نهاية المطاف.

3) حاول أن تتجنب، في ظروف عملك، ابتذال الحياة اليومية، فشبه الاسترخاء على خلفية من الاصوات التافهة يحط من قدر المرء. وعلى النقيض، فإن مصاحبة دراسة موسيقية أو أصوات مشوشة يمكن أن تصبح من الأهمية للعمل قدر أهمية سكون الليل المحسوس. وإذا كان هذا الأخير يرهف الأذان الداخلية، فإن تلك الأولى تصبح الحجر السحري لأسلوب يكون من الثراء بحيث تنطمر فيه حتى الضوضاء الغريبة .

4) تجنب استخدام أي أدوات كتابية دون تمييز .فالتعلق الاستحواذي بأنواع معينة من الأوراق، والأقلام، والأحبار، أمر مفيد. وما لا غنى عنه هنا ليس فخامة هذه الأدوات، بل وفرتها .

5) لا تدع أية فكرة تمر مجهولة واحتفظ بمفكرة ملاحظاتك بنفس الصرامة التي تحفظ بها السلطات بسجل الأجانب.

6) اجعل قلمك يترفع عن الإلهام، وسوف يجذبه نحوه بقوة مغناطيس. وبقدر ما تتيح من التأني في تسجيل فكرة عرضت لك، بقدر ما تكون أشد نضجاً حين تسلم نفسها إليك، عن طيب خاطر. الكلام يهزم الفكرة، لكن الكتابة تسيطر عليها بمهارة.

7) لا تتوقف أبدا عن الكتابة بدعوى أن الأفكار فرغت منك. فالشرف الأدبي يملي عليك ألا تقطع الكتابة إلا لاحترام توقيت معين (مثل وجبة طعام، أو موعد) أو حين يكتمل العمل.

8) إملأ فترات إنقطاع الإلهام بنسخ و تبييض ما انتهيت منه فعلاً، وسوف يصحو الإلهام في هذه الأثناء.

9) لا تدع يوماً يمر يوم بدون سطر Nulla dies sine linea.

10) لا تعتبر أي عمل مكتملاً أبدا ما لم تنكب على العمل فيه مرة من المساء حتى الصباح التالي.

11) لا تكتب خاتمة عمل ما في الغرفة التي تعمل بها عادة. فلن تواتيك هناك الشجاعة الكافية.

12) مراحل التأليف هي: الفكرة – الأسلوب – الكتابة . ويتمثل معنى النسخة المضبوطة في أنها، أثناء العمل الذي تتطلبه، توجه الانتباه إلى الخط وحده. الفكرة تقتل الإلهام، و الأسلوب يقيد الفكرة، و الكتابة تعوض الأسلوب .

13) العمل هو القناع الجنائزي للفكرة الأصلية.


[1] فالتر بنيامين، شارع ذو اتجاه واحد، ترجمة: أحمد حسان (بيروت: أزمنة للنشر و التوزيع، 2008)، ص. 38-39.

قبل أن يصبح الأول نازياً و الثاني فيلسوفاً

قياسي

1903-1904، في مدرسة مدينة Linz بالنمسا:

الصورة تجمع القائد النازي “إدولف هتلر” بـ “لودفغ فيتجينشتاين”، أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين.

الصورة شهيرة و هي من كتاب للأسترالي Kimberley Cornish يذهب فيه إلى أن كراهية هتلر لليهود تجد أصلها في مشاعر الغيرة التي انتابته – و هو الطالب المتواضع أكاديمياً –  تجاه زميله النابغة اليهودي هذا؛ فيتجينشتاين.

يبدو لي التفسير مبسّطاً جداً، مثل كل شيء آخر في حياتنا.

و لكن محمداً كان يضحك!

قياسي
في رواية “اسم الوردة”، يلفت المؤلف أمبرتو إيكو نظرنا إلى أن رهبان القرون الوسطي كانوا يؤمنون “بأن المسيح لم يضحك أبداً”. كان دليلهم نحو ذلك هو أن الكتاب المقدس قد خلا من أية إشارة إلى حادثة ضحك فيها المسيح، الأمر الذي حدا بهم لأن يناصبوا الضحك العداء.
أحد أبطال الرواية و هو “يورج”، الراهب الأعمى ذو الفكر المتحجّر، كان يخاف من الضحك بقدر خوفه من كل من أرسطو (رمز المعرفة) و الشيطان (رمز الشر) معاً، لأن الضحك، على حد قوله، “يبعد السوقيّ عن الخوف و لو لبضع لحظات، و يضع بيد العامّي وسيلة للسخرية من الحقائق”.
من يراجع خطابنا الديني المعاصر  لا يملك – إزاء تجهمه – إلا أن يتساءل عما إذا كانت أزمة العصور المسيحية الوسطى هذه قد تأخرت في رحلتها عبر الزمن فلم تصل إلينا إلا الآن.
و لكن محمداً صلى الله عليه و سلم كان يضحك !