د. مشاعل عبد العزيز الهاجري
12 يوليو 2012
—
–
–
صيرت دينك شاهيناً تصيد به
و ليس يفلح أصحاب الشواهينِ
قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره
وقد فتحت لك الحانوت بالدينِ
– الإمام القاضي ابن المبارك
–
هل جميع مصادر الدخل لائقة، ما دامت لم تحصّل بطريق الحرام؟
ماذا عن الخصوصية الروحية للدين؟ هل تقبل قيمة الدين الانحدار به إلى درجة التعاطي معه وفقاً لمنطق الربح و الخسارة الدنيوي الفج؟
هذه مسألة تستحق وقفة جادة.
لدي، مثل غيري، مفهوم عالٍ جداً للدين. يصعب علي قيمياً أن أراه يتحول على أيدي البعض من رجال الدين الطموحين مالياً إلى “مكدّة” حقيقية؛ صنعة، تجارة، مهنة، إوزة تبيض ذهباً:
قنوات فضائية، برامج تلفزيونية، عضوية لجان إفتاء، حملات إعلامية (مع صور عملاقة للداعية على حافات النقل العام لا يليق ما توحي به من نرجسية – حقيقةً – إلا بالممثلين أو لاعبي كرة القدم)، محاضرات، دورات، أشرطة، كتب، أناشيد، رسائل هاتفية مدفوعة، مواقع إنترنت مثقلة بالإعلانات التجارية، تنظيم رحلات سياحية للخارج، و العديد العديد من الأنشطة التي لا تتفتق عنها إلا ذهنية تجارية حقيقية.
كل ذلك، من دون أدنى اعتبار لأية درجة من درجات الشفافية (transparency) أو الإفصاح (disclosure) و هي من أساسيات العمل المُحوكـَم (من “حوكمة” Governance) التي تبين لنا كجمهور مدى ارتباط رجال الدين هؤلاء بالمؤسسات و الأنشطة التي يروجون لها أو يرتبطون بها (لاحظ أن اعتبارات الحوكمة قد طبقت – إلى حدٍ ما – في مجال العمل الديني الخيري المتعلق بجمع التبرعات بعد أحداث 11 سبتمبر، أما العمل الديني الدعوي فما زال أرضاً مكشوفة خالية من أية قواعد تنظيمية).
لنتفق،
الدين منطقة روحية، ينبغي ألا يتصدى لها إلا من يتصف بدرجة “معقولة” (حتى لا أقول “عالية”) من الزهد و الاكتفاء الروحيين. الطموح المالي أمر مشروع تماما، و لكن من يمارس طموحه المالي المحموم في منطقة الدين يعرّض نفسه – و يعرضنا معه – لدرجة خطيرة من تضارب المصالح و القيم ناهيك عن إلتباس الرؤية، لا سيما في ضوء التعمية و السكوت عن العلاقات التجارية و المالية التي تربطه بالأنشطة التي يروّج لها.
دع عنك كل ذلك، و لنتحدث في الأهم: ماذا عن اعتبارات الحياء، القناعة، و التعفّف؟
شخصياً، لا أجد في نفسي قبولاً أبداً في أن أرجع بمسائلي الدينية من فتاوى و استشارات إلى “رجل أعمال”، نصف عقله معي و النصف الآخر مشغول في موعد “جلسة التصوير للحملة الإعلامية الخاصة بـ …” و التي ستخدم الغرض الفلاني النبيل و في الوقت نفسه – و يا للصدفة – سيقبض عنها شيخنا 20 ألف دينار، ناهيك عن نسبته عن هوامشها الأخرى (لاحظ منطق المبيعات و التسويق المطبق هنا).
رجل الدين الحقيقي – بالنسبة لي – هو شخص لديه صنعة يتكسّب منها، و بذلك يكون قراره مستقلاً و بعيداً عن شبهة الطمع أو الحاجة (مهندس، محامي، محاسب، طبيب)، فلا يمارس الأنشطة الدينية إلا على سبيل التطوع، أو على الأقل هو من يكون متفرغاً للعمل الديني الحقيقي – و إن كان مدفوعاً – لا الاستعراضي التسويقي.
و الأهم من كل ذلك، أن رجل الدين الحقيقي هو من ينأى بنفسه عن مواطن الشبهات، فلا ينخرط إلا في الأنشطة التي تكون روابطه المالية بها واضحة و معلنة، و الذي يبادر بالإفصاح من تلقاء نفسه – و من دون سؤال مسبق قد يتحرج الناس من إثارته – عن مدى إستفادته من تلك الأنشطة، سواء كانت استفادته هذه استفادة مالية أو على شكل منافعٍ أخرى (خصومات، تذاكر سفر، امتيازات، أشياء عينية، إلخ).
إفصاحاتٌ مثل هذه ينبغي أن تكون متطلباً لازماً، شيئاً مشابهاً لميثاق الشرف للمهنة (Code of Ethics)، بحيث تعلن في مقدمة كل برنامج تلفزيوني، على تغليف كل شريط، على غلاف كل كتاب، و في السطر الأخير من كل فتوى.
من المؤسف فعلاً أننا صرنا نطالب بعض رجال الدين بما نطالب به التجار و رجال الأعمال من اعتبارات الحوكمة التي تعني الشفافية و الوضوح و الإفصاح و الإعلان و التدفق الحر للمعلومات و الاعتبارات المحاسبية، و لكن هذه الفئة من رجال الدين هي من انتقل بالعمل الديني من المستوي الروحي الرفيع إلى المستوى التجاري المادي، و لا بأس. و لكن ما دام الأمر كذلك، فليلتزم رجال الدين ممن يضعون انفسهم في مراكز ملتبسةٍ مثل هذه بقواعد العمل المنضبط المتبعة في الوسط التجاري الذين دخلوا – و أدخلونا معهم – فيه.
و بعد، فإن كانت هذه الأنشطة تبرعية منهم و خالصة لوجه الله، فليعلنوا ذلك فيكونوا لنا المثل و القدوة في الزهد و التجرد – تماماً كما ينبغي لرجل الدين – و جزاهم الله عنا كل خير. أما إن كانت هذه الأنشطة و الروابط مدفوعة الأجر بشكل أو بآخر فلا بأس في ذلك و “بها و نَعِمَت” كما يقال، و لكن ليفصحوا لنا فقط عن كونها مدفوعة حتى نفهم مدى ارتباطهم بالموضوع الذي يفتون فيه تحليلاً أو تحريماً أو لندرك حجم علاقتهم بالشركة التي يروجون لأنشطتها، و لهم بعد ذلك دعواتنا المخلصة بأن يبارك الله لهم في كل درهمٍ و دينارٍ منها – و لكن ليفصحوا.
هكذا فقط ينبغي لرجل الدين أن يكون مستحقاً لثقتنا، باعتباره قد قرر التصدي للعمل في أكثر مناطقنا الروحية رفعةً و جلالاً.
كان ما تقدم إشارة منهجية / قيمية لازمة، و مع ذلك، فالخير – إن شاء الله – في الكثير من العاملين في هذا المجال، و لا نزكي على الله منهم أحداً.
––