مشهد شهير من مسرحية “بيت الدمية”
د. مشاعل عبد العزيز الهاجري
26 يونيو 2012
–
مقدمــة
–
إليكم تطبيقٌ أدبيٌ ممتازٌ من المسرح العالمي لما نقوله دائماً من أن القانون هو منظومة ضبط اجتماعي لا تُعنى بالنوايا إلا إذا ارتبطت بسلوك خارجي فقط.
فمن بين جميع ما أسماه السوسيولوجي الأشهر إميل دركهايم بـ “الكوابح الاجتماعية” (Social Constraints) أي العمليات والوسائل، التي تستخدمها الجماعة في تضييق نطاق الانحرافات عن المعايير الاجتماعية[1]– و أعني وسائل كالأخلاق، الدين، الحس السليم، العادات، التوقعات، الاحترام، الأفكار المشتركة، التقاليد، العيب، الوعود، الأعراف، الاتفاقات، القيم ، الحرام، كلمات شرف و القانون – من بين جميع هذه الوسائل، فإن القانون تحديداً لا تتحرك آلياته الخاصة بالضبط القهري (التشريع، اللوائح التنظيمية، أحكام المحاكم، النظام العام و الآداب) إلا إذا انتقلت الإرادة من الداخل إلى الخارج ثم عبرت عن هذا الانتقال بمسلكٍ خارجيٍ ما (لفظ، تهديد، ترصد، شروع، اعتداء، إعلان، توقيع، إتلاف، إقرار، إلخ). إن هذه الخاصية تحديداً – إي عدم تعامل القانون إلا مع ما هو خارجي و قابل للرصد، التثبت، القياس و التقييم – هي ما يعطي القانون حده دون عداه من وسائل الضبط الاجتماعي ميزتي الانضباط و المعيارية، كما انها هي وحدها التي تعتبر ضمانة حقيقية للحقوق الدستورية، من حيث أنها لا تسمح بأخذ الناس و لا بإهدار حقوقهم إلا بما هو ثابت واقعياً.
و مع ذلك، فقد يكون للأمر تطبيقاته المتطرفة، التي و أن بدت متجاوزة لاعتبارات العدالة الخالصة، إلا أنها متسقة مع اعتبارات التنظيم. قد يكون هذا المشهد الشهير من مسرحية “بيت الدمية” A Doll’s House للكاتب النرويجي هنريك إبسن (1828-1906) مثال جيد على ذلك.
تدور الرواية حول عائلة كانت سعيدة إلى أن مرت بظرف مالي حرج. الأبطال هم زوجة (نورا) يمرض زوجها (هيلمر) فتقترض – بسبب من تعقيدات تشريعية تتعلق بمركزها القانوني كإمرة، و من دون علم الزوج – مبلغاً مالياً من أحدهم (كروتشاد)، لدفعه لرحلة نقاهة طبية يحتاجها الزوج. يحاول المقرض ابتزازها مستنداً إلى كون القانون يعترف بالمديونيات وحدها دون أن يتعدى ذلك إلى بحث مدى نبل الدوافع من وراءها. بعدها، تنكشف الأمور مما يعرضها نورا تقريع زوجها الذي تأخر في فهم دوافعها النبيلة، و هو الأمر الذي لم تغفره أبداً له.
يذكر أن مسرحية “بيت الدمية” تعتبر من عيون الأعمال المسرحية العالمية، لا سيما من حيث تأثيرها الاجتماعي الذي ساهم في اعطاء الحركات التحررية النسوية من حيث قوة المشهد الأخير و دلالاته، و هو مشهد الذروة الذي تختلف فيه نورا هيلمر مع زوجها فتقرر هجره و تخرج من البيت ثم تصفق الباب وراءها.
لقد قيل دائماً أن صفق نورا لباب الخروج لم تسمع دلالة دويّه على المسرح فقط و أنما سمعت أصداءها في جميع أرجاء مسارح العالم، لينتقل هذا الدوي بعدها إلى مرتكزات اجتماعية كبرى تتعلق بالأفكار التقليدية لأوروبا القرن التاسع عشر و الخاصة بعلاقة المرأة بالرجل و ما ينظمها من قيم تقليدية هزها هذا الدوي كقيم الطاعة و الخضوع و العائلة و الارتباط، كما كان لهذا الدوي أثر أيضاً في تغيير العديد من التشريعات المدنية التي كانت تحد من الذمة المالية للمرأة من و من قدرتها على الدخول في التعاملات المالية، و التحول بها نحو رسك مراكز قانونية جديدة تماماً للمرأة قائمة على الاعتراف الكامل لها بالاستقلالية القانونية.
من حيث تأثيرها غير المسبوق، فإن “بيت الدمية” لم تكن مسرحية. لقد كانت ثورة اجتماعية حقيقية.
–
المشهـــد[2]
–
كروجشتاد: (يقترب منها خطوة) اسمعي يا مدام هيلمر. أما أن ذاكرتك ضعيفة جدا، وأما أن درايتك بدنيا الأعمال ضئيلة للغاية. وعليه أحب أن أنبهك إلى بعض التفاصيل.
نورا : ماذا تعني؟
كروجشتاد : عندما مرض زوجك ، أتيت إلى لاقتراض مبلغ 250 جنيها.
نورا : لم أكن أعرف شخصا آخر أتوجه إليه.
كروجشتاد : فوعدتك بالحصول على المبلغ …
نورا : وكنت عند وعدك.
كروجشتاد : وعدتك بالحصول على المبلغ بشروط معينة. كان بالك مشغولا بمرض زوجك ، وكنت في لهفة للحصول على المال اللازم للرحلة ، حتى أنك كما يظهر ، لم تلقي أي اهتمام إلى الشروط التي تضمنتها الصفقة. ولهذا لن نخسر شيئا إذا أنا ذكرتك بها. والآن لقد وعدتك بالحصول على المبلغ بموجب كمبيالة حررتها بنفسي.
نورا : ووقعت عليها أنا.
كروجشتاد : عظيم . وتحت توقيعك وردت فقرة تنص على أن يكون أبوك ضامنا لك. وكان المفروض على أبيك أن يذيل تلك الفقرة بتوقيعه.
نورا : كان المفروض عليه ؟ لقد وقعها بالفعل.
كروجشتاد : ثم أعطيتك الكمبيالة لإرسالها إلى أبيك بالبريد. صحيح؟
نورا : نعم
كروجشتاد : والظاهر أنك أرسلتها على الفور. لأنك جئت إلي بها بعد خمسة أو ستة أيام موقعا عليها أبيك. وعندئذ ناولتك المبلغ.
نورا : أو لم أقم بالتسديد بانتظام؟
كروجشتاد : كانت وطأة المرض قد اشتدت على أبيك فيما أظن؟
نورا : كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.
كروجشتاد : ولم يلبث أن مات بعدها بقليل؟
نورا : نعم.
كروجشتاد : أخبريني يا مدام هيلمر، أتذكرين اليوم الذي توفي فيه والدك؟ أعني أي يوم من أيام الشهر؟
نورا : توفي والدي في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر.
كروجشتاد : مضبوط. لقد تحققت من ذلك التاريخ بنفسي. وبناء عليه يكون في المسألة شيء من التناقض. (يخرج ورقة من جيبه) لا أستطيع تفسيره.
نورا : أي تناقض؟ لست أدري …
كروجشتاد : هذا التناقض يا مدام هيلمر ، يتلخص في أن أباك وقع على الكمبيالة بعد ثلاثة أيام .. من وفاته.
نورا : ماذا تعني ؟ لست أفهم …
كروجشتاد : لقد توفي أبوك في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر ، ولكن الوثيقة تقول أنه ذيل توقيعه بتاريخ 2 أكتوبر . وهو تناقض لا يستقيم مع المنطق ، ألا توافقينني على ذلك ؟ (نورا تلتزم الصمت) ومما يلفت النظر أن التاريخ لم يكتب بخط أبيك ، وإنما بخط مألوف لدي أعرف صاحبه. وهذه مسألة يمكن تبريرها على أي حال. فمن الجائز أن يكون أبوك نسي كتابة التاريخ سهوا ، فوضعة شخص أخر لم يكن قد بلغه خبر الوفاة. ولا ضرر في ذلك. كل ما يهم هو التوقيع في حد ذاته. وأظنه صحيحا يا مدام هيلمر ، أليس كذلك؟ إنه والدك الذي كتب التوقيع بخط يده على هذه الكمبيالة ، أليس كذلك ؟
نورا : (تصمت قليلا ، ثم تلقي برأسها إلى الوراء ، وتنظر إليه بتحد) كلا. أنا التي كتبت توقيع والدي.
كروجشتاد : أتدركين خطوة هذا الاعتراف؟
نورا : من أي وجه ؟ ألن تحصل على نقودك كاملة؟
كروجشتاد : أحب أن أسألك . لم لم ترسلي الكمبيالة إلى أبيك ؟
نورا : كان ذلك مستحيلا لاشتداد المرض عليه. ولو طلبت إليه التوقيع لكان على أن أبين له السبب الذي أريد النقود من أجله. ولم يكن من المعقول أن أنبئه ، وهو يعاني من وطأة المرض ، بالخطر الذي يحدق بحياة زوجي . محال.
كروجشتاد : ربما كان من الأفضل بالنسبة لك لو كنت عدلت عن القيام بتلك الرحلة.
نورا : مستحيل ، أن أجد في الرحلة الأمل الوحيد لإنقاذ حياة زوجي ولا أقوم بها. مستحيل.
كروجشتاد : ألم يخطر ببالك أنك أتبعت معي وسيلة من وسائل الاحتيال؟
نورا : لم يكن ذلك ليثنيني عن عزمي. فلم أعبأ بتلك الصغائر ، وأنت من بينها. ولم أكن أحتمل ظلك لما وضعته أمامي من عراقيل قاسية ، رغم علمك بما تنطوي عليه حالة زوجي من خطورة بالغة.
كروجشتاد : يبدو يا مدام هيلمر أنك لا تدرين كنه الفعلة التي أقدمت عليها. أؤكد لك أن هفوتي السابقة التي خسرت بسببها حسن سمعتي إلى الأبد. لم تكن تزيد في قليل أو كثير عما ارتكبته أنت.
نورا : أنت ؟ أو تريد مني أن أعتقد أنك تسلحت بالشجاعة في يوم من الأيام لتنقذ حياة زوجتك ؟
كروجشتاد : القانون لا يهتم كثيرا بالدوافع!
نورا : إذن فهو قانون ساذج.
كروجشتاد : سواء أكان ساذجا أم لا. فهذا لا يمنع كونه القانون الذي ستحاكمين بمقتضاه عندما أبرز هذه الوثيقة في ساحة القضاء.
نورا : هراء ، ألا يحق للابنة أن تجنب أباها المشاغل والمضايقات وهو يعالج سكرات الموت ؟ ألا يحق للزوجة أن تنقذ حياة زوجها ؟ لست أعرف الكثير عن القانون. ولكني واثقة من وجود قوانين تسمح بمثل هذه الأحوال. جدير بك أن تعرف تلك القوانين وأنت المشتغل بالمحاماة ، إنك محام قليل الدراية يا سيد كروجشتاد.
كروجشتاد : ربما ، ولكن هذه الحالة بالذات، أفهمها جيدا. والصفقة التي أبرمت بيننا لم تغب ملابساتها عني. وعلى أي حال ، الأمر بين يديك فافعلي ما يحلو لك. ولكن ثقى أنني لو فقدت مركزي في البنك للمرة الثانية ، فستفقدين مركزك معي أنت أيضا.
(ينحني لها ويخرج من الصالة وتظل نورا مستغرقة في أفكارها بعض الوقت ، ثم تهز رأسها).
–
–
[1] حول الضبط الاجنماعي أنظر: أحمد زكي بدوي، “معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية”، مكتبة لبنان، بيروت، 1986 ؛ روبرت ماكيفر، و شالزبيج، “المجتمع”، ترجمة على أحمد عيسى، مكتبة النهضة العربية، القاهرة، 1961. ؛ عاطف غيث، “المشاكل الاجتماعية والسلوك الانحرافي”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1984. ؛ عبدالرحمن بن خلدون، “مقدمة أبن خلدون”، تحقيق و شرح على عبد الواحد وافى، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثالثة، د.ت، الجزء الأول ؛ عبدالهادي والى، “التنمية الاجتماعية، مدخل لدراسة المفهومات الأساسية”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1983. ؛ غريب سيد أحمد وآخرون، “المدخل إلى علم الاجتماع”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996. ؛ فوزية دياب، “القيم والعادات الاجتماعية (مع بحث ميداني لبعض العادات الاجتماعية)”، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1966؛ محمد عاطف غيث، “قاموس علم الاجتماع”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995 ؛ ميشيل مان، “موسوعة العلوم الاجتماعية”، ترجمة عادل الهواري، وسعد مصلوح، مكتبة الفلاح، العين، 1994. ؛ نبيل السمالوطي، “نظرية علم الاجتماع في دراسة الثقافة، دراسة نظرية و تطبيقية”، دار المعارف، القاهرة، 1984 ؛ أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005).
[2] هنريك إبسن، بيت الدمية، ترجمة كامل يوسف (دمشق: دار المدى للثقافة و النشر، 2007)، ص. ص 43-45.