Monthly Archives: جوان 2012

كيف تعمل ككتيبة فض اشتباك – لوحدك (ثم تندم)

قياسي

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

20 يونيو 2012

خلال عطلة نهاية الأسبوع، و أثناء السباحة على شاطئ البحر، خطر لي استعمال الغواصة البلاستيكية الصغيرة ذات الأنبوب التي تعود إلى ابني ذي السبع سنوات (لاستخدامها لمدة 30 دقيقة، تطلب الأمر 3 دقائق وصلة تملق، عدد 2 أصبع تويكس، وعد بـ 7 دقائق لعب على جهازي الجالاكسي الجديد، و قضاء أمسية كاملة في تحمل معايرته لي لحاجتي لغواصته ذات الرسومات تلك).

بغواصة صغيري غصت، و ليتني ما فعلت.

يتخيل المرء أنه عندما يضع على عينيه غواصة للصغار مزينة بالرسومات الطفولية فإن “منظورا” مثل هذا للحياة من شأنه أن لا يريه – تلقائياً – إلا المشاهد السعيدة و المفرحة. ما كان أشد سذاجتي.

 ما رأيته تحت الماء (على عمق 3-4 أقدام فقط) كان مشهدا خالصاُ من الرعب الحقيقي: لقد كنت أسبح في بقعة يبلغ مداها حوالي 20 متر، تدور في كل سنتيمتر منها مذابح كارنوفورية بالمعنى الحرفي: حلزونات كبيرة تهاجم حلزونات صغيرة من فصيلة أخرى لتأكلها و تتغذي عليها. كان ما يدور تحت الماء من حولي، أينما ألتفتّ، هو حفلة وحشية مجنونة من جرائم إبادة الجنس الجماعية. هكذا، بعلنية، و بدم بارد (إن كان للحلزونات دماء).

كان الأمر يفوق قدرتي على الاحتمال. شمّرت عن أكمامي (عندما تكون في البحر، لا يعدو ذلك أن يكون تعبيراً بلاغياً فقط) و قررت تشكيل فرقة لفض الاشتباك؛ مكونة مني لوحدي: عدّلت من غواصتي الصغيرة، أخذت شهيقاً قوياً، و غصت.

قضيت الساعة التالية و أنا أتجاهل نداءات الأصدقاء المغرية (طعام، سباقات بحرية، و أشياء أخرى)، لأنني كنت مشغولة، قيمياً، بلعب دور قوات الأمم المتحدة في أعالي البحار؛ اليونيكوم و اليونيفيل و اليونافيم معاً. لقد كنت أغوص، أعاين، أحدد موقع الاشتباك، ثم أتدخل:  أفك الاشتباك بأن أمسك – بدقة الجراحين و بأصبعين فقط – أمسك المعتدي بيد و الضحية بيد أخرى، ثم ألقي، عالياً بالهواء، بالأول جهة اليمين و بالثاني جهة الشمال. و هكذا، خلقت معسكراً يمينياً و آخر يسارياً ، أنقذت أعداداً لا حصر لها من الحلزونات المسكينة، و حكمت بالنفي – من دون محاكمة – على أعداد مماثلة من نظيراتها التي قررت، مشهدياً، أنها شريرة.

عندما انتهى يومي الفروسيّ النبيل، خرجت من الماء و كلي بلل من نوعٍ آخر، بلل مشبّع بالرضا. لم يطل ذلك كثيراً، فما أن جاءت اللحظة الفارقة، لحظة خلعي لغواصة صغيري من عينيّ، حتى بدا لي أنني بخلعي لهذه الغواصة  خلعت معها منظوراً طفولياً للأشياء. لقد بدأ إدراكي الرشيد يعود شيئاً فشيئاً لينسكب على وعيي كما ينسكب الماء البارد على المعدن الساخن:

ما كان هذا الذي فعلته؟

من أجل حاجة داخلية ساذجة لا تقصد – لنعترف – إلا لمليء وعائي الذاتي بمكاييل صغيرة من الفخر و العاطفة و الشهامة (إضافة إلى شيئ من رغبة بأن أخرج من البحر بقصة مثيرة أرويها لأصدقائي في مقاربة لقصص البحارة القدامى)، ها أنا قد عبثت بالدورة الغذائية التاريخية لرخويات البحار، و بالتركيبة الإيكولوجية لخليجنا العربي (الفارسي؟ كما تريد، لا رغبة لدي في الجدل)، خالقة بذلك خللاً بيولوجياً/بيئياً سيدوم ضرره لزمن لا يعلمه إلا الله وحده.

 لقد شكّل الأمر حالة كلاسيكية من حالات الخيارات الأخلاقية الساذجة: لمنع جرائم صغيرة (بحساب الفضيلة)، ها أنا قد ارتكبت جريمة كبرى (بحساب الواقع).

درس اليوم:

لا مطلق. الفضيلة أمر نسبي.

القانون و مدى اعتداده بالنوايا: مسرحية “بيت الدمية”

قياسي

 

مشهد شهير من مسرحية “بيت الدمية”

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

26 يونيو 2012

 –

 

مقدمــة

إليكم تطبيقٌ أدبيٌ ممتازٌ من المسرح العالمي لما نقوله دائماً من أن القانون هو منظومة ضبط اجتماعي لا تُعنى بالنوايا إلا إذا ارتبطت بسلوك خارجي فقط.

فمن بين جميع ما أسماه السوسيولوجي الأشهر إميل دركهايم بـ “الكوابح الاجتماعية” (Social Constraints) أي العمليات والوسائل، التي تستخدمها الجماعة في تضييق نطاق الانحرافات عن المعايير الاجتماعية[1]– و أعني وسائل كالأخلاق، الدين، الحس السليم، العادات، التوقعات، الاحترام، الأفكار المشتركة، التقاليد، العيب، الوعود، الأعراف، الاتفاقات، القيم ، الحرام، كلمات شرف و القانون – من بين جميع هذه الوسائل، فإن القانون تحديداً لا تتحرك آلياته الخاصة بالضبط القهري (التشريع، اللوائح التنظيمية، أحكام المحاكم، النظام العام و الآداب) إلا إذا انتقلت الإرادة من الداخل إلى الخارج ثم عبرت عن هذا الانتقال بمسلكٍ خارجيٍ ما (لفظ، تهديد، ترصد، شروع، اعتداء، إعلان، توقيع، إتلاف، إقرار، إلخ). إن هذه الخاصية تحديداً – إي عدم تعامل القانون إلا مع ما هو خارجي و قابل للرصد، التثبت، القياس و التقييم – هي ما يعطي القانون حده دون عداه من وسائل الضبط الاجتماعي ميزتي الانضباط و المعيارية، كما انها هي وحدها التي تعتبر ضمانة حقيقية للحقوق الدستورية، من حيث أنها لا تسمح بأخذ الناس و لا بإهدار حقوقهم إلا بما هو ثابت واقعياً.

و مع ذلك، فقد يكون للأمر تطبيقاته المتطرفة، التي و أن بدت متجاوزة لاعتبارات العدالة الخالصة، إلا أنها متسقة مع اعتبارات التنظيم. قد يكون هذا المشهد الشهير من مسرحية “بيت الدمية” A Doll’s House للكاتب النرويجي هنريك إبسن (1828-1906) مثال جيد على ذلك.

تدور الرواية حول عائلة كانت سعيدة إلى أن مرت بظرف مالي حرج. الأبطال هم زوجة (نورا) يمرض زوجها (هيلمر) فتقترض – بسبب من تعقيدات تشريعية تتعلق بمركزها القانوني كإمرة، و من دون علم الزوج – مبلغاً مالياً من أحدهم (كروتشاد)، لدفعه لرحلة نقاهة طبية يحتاجها الزوج. يحاول المقرض ابتزازها مستنداً إلى كون القانون يعترف بالمديونيات وحدها دون أن يتعدى ذلك إلى بحث مدى نبل الدوافع من وراءها. بعدها، تنكشف الأمور مما يعرضها نورا تقريع زوجها الذي تأخر في فهم دوافعها النبيلة، و هو الأمر الذي لم تغفره أبداً له.

يذكر أن مسرحية “بيت الدمية” تعتبر من عيون الأعمال المسرحية العالمية، لا سيما من حيث تأثيرها الاجتماعي الذي ساهم في اعطاء الحركات التحررية النسوية من حيث قوة المشهد الأخير و دلالاته، و هو مشهد الذروة الذي تختلف فيه نورا هيلمر مع زوجها فتقرر هجره و تخرج من البيت ثم تصفق الباب وراءها.

لقد قيل دائماً أن صفق نورا لباب الخروج لم تسمع دلالة دويّه على المسرح فقط و أنما سمعت أصداءها في جميع أرجاء مسارح العالم، لينتقل هذا الدوي بعدها إلى مرتكزات اجتماعية كبرى تتعلق بالأفكار التقليدية لأوروبا القرن التاسع عشر و الخاصة بعلاقة المرأة بالرجل و ما ينظمها من قيم تقليدية هزها هذا الدوي كقيم الطاعة و الخضوع و العائلة و الارتباط، كما كان لهذا الدوي أثر أيضاً في تغيير العديد من التشريعات المدنية التي كانت تحد من الذمة المالية للمرأة من و من قدرتها على الدخول في التعاملات المالية، و التحول بها نحو رسك مراكز قانونية جديدة تماماً للمرأة قائمة على الاعتراف الكامل لها بالاستقلالية القانونية.

من حيث تأثيرها غير المسبوق، فإن “بيت الدمية” لم تكن مسرحية. لقد كانت ثورة اجتماعية حقيقية.

 

المشهـــد[2]

كروجشتاد: (يقترب منها خطوة) اسمعي يا مدام هيلمر. أما أن ذاكرتك ضعيفة جدا، وأما أن درايتك بدنيا الأعمال ضئيلة للغاية. وعليه أحب أن أنبهك إلى بعض التفاصيل.

نورا : ماذا تعني؟

كروجشتاد : عندما مرض زوجك ، أتيت إلى لاقتراض مبلغ 250 جنيها.

نورا : لم أكن أعرف شخصا آخر أتوجه إليه.

كروجشتاد : فوعدتك بالحصول على المبلغ …

نورا : وكنت عند وعدك.

كروجشتاد : وعدتك بالحصول على المبلغ بشروط معينة. كان بالك مشغولا بمرض زوجك ، وكنت في لهفة للحصول على المال اللازم للرحلة ، حتى أنك كما يظهر ، لم تلقي أي اهتمام إلى الشروط التي تضمنتها الصفقة. ولهذا لن نخسر شيئا إذا أنا ذكرتك بها. والآن لقد وعدتك بالحصول على المبلغ بموجب كمبيالة حررتها بنفسي.

نورا : ووقعت عليها أنا.

كروجشتاد : عظيم . وتحت توقيعك وردت فقرة تنص على أن يكون أبوك ضامنا لك. وكان المفروض على أبيك أن يذيل تلك الفقرة بتوقيعه.

نورا : كان المفروض عليه ؟ لقد وقعها بالفعل.

كروجشتاد : ثم أعطيتك الكمبيالة لإرسالها إلى أبيك بالبريد. صحيح؟

نورا : نعم

كروجشتاد : والظاهر أنك أرسلتها على الفور. لأنك جئت إلي بها بعد خمسة أو ستة أيام موقعا عليها أبيك. وعندئذ ناولتك المبلغ.

نورا : أو لم أقم بالتسديد بانتظام؟

كروجشتاد : كانت وطأة المرض قد اشتدت على أبيك فيما أظن؟

نورا : كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.

كروجشتاد : ولم يلبث أن مات بعدها بقليل؟

نورا : نعم.

كروجشتاد : أخبريني يا مدام هيلمر، أتذكرين اليوم الذي توفي فيه والدك؟ أعني أي يوم من أيام الشهر؟

نورا : توفي والدي في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر.

كروجشتاد : مضبوط. لقد تحققت من ذلك التاريخ بنفسي. وبناء عليه يكون في المسألة شيء من التناقض. (يخرج ورقة من جيبه) لا أستطيع تفسيره.

نورا : أي تناقض؟ لست أدري …

كروجشتاد : هذا التناقض يا مدام هيلمر ، يتلخص في أن أباك وقع على الكمبيالة بعد ثلاثة أيام .. من وفاته.

نورا : ماذا تعني ؟ لست أفهم …

كروجشتاد : لقد توفي أبوك في التاسع والعشرين من شهر سبتمبر ، ولكن الوثيقة تقول أنه ذيل توقيعه بتاريخ 2 أكتوبر . وهو تناقض لا يستقيم مع المنطق ، ألا توافقينني على ذلك ؟ (نورا تلتزم الصمت) ومما يلفت النظر أن التاريخ لم يكتب بخط أبيك ، وإنما بخط مألوف لدي أعرف صاحبه. وهذه مسألة يمكن تبريرها على أي حال. فمن الجائز أن يكون أبوك نسي كتابة التاريخ سهوا ، فوضعة شخص أخر لم يكن قد بلغه خبر الوفاة. ولا ضرر في ذلك. كل ما يهم هو التوقيع في حد ذاته. وأظنه صحيحا يا مدام هيلمر ، أليس كذلك؟ إنه والدك الذي كتب التوقيع بخط يده على هذه الكمبيالة ، أليس كذلك ؟

نورا : (تصمت قليلا ، ثم تلقي برأسها إلى الوراء ، وتنظر إليه بتحد) كلا. أنا التي كتبت توقيع والدي.

كروجشتاد : أتدركين خطوة هذا الاعتراف؟

نورا : من أي وجه ؟ ألن تحصل على نقودك كاملة؟

كروجشتاد : أحب أن أسألك . لم لم ترسلي الكمبيالة إلى أبيك ؟

نورا : كان ذلك مستحيلا لاشتداد المرض عليه. ولو طلبت إليه التوقيع لكان على أن أبين له السبب الذي أريد النقود من أجله. ولم يكن من المعقول أن أنبئه ، وهو يعاني من وطأة المرض ، بالخطر الذي يحدق بحياة زوجي . محال.

كروجشتاد : ربما كان من الأفضل بالنسبة لك لو كنت عدلت عن القيام بتلك الرحلة.

نورا : مستحيل ، أن أجد في الرحلة الأمل الوحيد لإنقاذ حياة زوجي ولا أقوم بها. مستحيل.

كروجشتاد : ألم يخطر ببالك أنك أتبعت معي وسيلة من وسائل الاحتيال؟

نورا : لم يكن ذلك ليثنيني عن عزمي. فلم أعبأ بتلك الصغائر ، وأنت من بينها. ولم أكن أحتمل ظلك لما وضعته أمامي من عراقيل قاسية ، رغم علمك بما تنطوي عليه حالة زوجي من خطورة بالغة.

كروجشتاد : يبدو يا مدام هيلمر أنك لا تدرين كنه الفعلة التي أقدمت عليها. أؤكد لك أن هفوتي السابقة التي خسرت بسببها حسن سمعتي إلى الأبد. لم تكن تزيد في قليل أو كثير عما ارتكبته أنت.

نورا : أنت ؟ أو تريد مني أن أعتقد أنك تسلحت بالشجاعة في يوم من الأيام لتنقذ حياة زوجتك ؟

كروجشتاد : القانون لا يهتم كثيرا بالدوافع!

نورا : إذن فهو قانون ساذج.

كروجشتاد : سواء أكان ساذجا أم لا. فهذا لا يمنع كونه القانون الذي ستحاكمين بمقتضاه عندما أبرز هذه الوثيقة في ساحة القضاء.

نورا : هراء ، ألا يحق للابنة أن تجنب أباها المشاغل والمضايقات وهو يعالج سكرات الموت ؟ ألا يحق للزوجة أن تنقذ حياة زوجها ؟ لست أعرف الكثير عن القانون. ولكني واثقة من وجود قوانين تسمح بمثل هذه الأحوال. جدير بك أن تعرف تلك القوانين وأنت المشتغل بالمحاماة ، إنك محام قليل الدراية يا سيد كروجشتاد.

كروجشتاد : ربما ، ولكن هذه الحالة بالذات، أفهمها جيدا. والصفقة التي أبرمت بيننا لم تغب ملابساتها عني. وعلى أي حال ، الأمر بين يديك فافعلي ما يحلو لك. ولكن ثقى أنني لو فقدت مركزي في البنك للمرة الثانية ، فستفقدين مركزك معي أنت أيضا.

(ينحني لها ويخرج من الصالة وتظل نورا مستغرقة في أفكارها بعض الوقت ، ثم تهز رأسها).


[1]  حول الضبط الاجنماعي أنظر: أحمد زكي بدوي، “معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية”، مكتبة لبنان، بيروت، 1986 ؛ روبرت ماكيفر، و شالزبيج، “المجتمع”، ترجمة على أحمد عيسى، مكتبة النهضة العربية، القاهرة، 1961. ؛ عاطف غيث، “المشاكل الاجتماعية والسلوك الانحرافي”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1984. ؛ عبدالرحمن بن خلدون، “مقدمة أبن خلدون”، تحقيق و شرح على عبد الواحد وافى، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثالثة، د.ت، الجزء الأول ؛ عبدالهادي والى، “التنمية الاجتماعية، مدخل لدراسة المفهومات الأساسية”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1983. ؛ غريب سيد أحمد وآخرون، “المدخل إلى علم الاجتماع”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996. ؛ فوزية دياب، “القيم والعادات الاجتماعية (مع بحث ميداني لبعض العادات الاجتماعية)”، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1966؛ محمد عاطف غيث، “قاموس علم الاجتماع”، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995 ؛ ميشيل مان، “موسوعة العلوم الاجتماعية”، ترجمة عادل الهواري، وسعد مصلوح، مكتبة الفلاح، العين، 1994. ؛ نبيل السمالوطي، “نظرية علم الاجتماع في دراسة الثقافة، دراسة نظرية و تطبيقية”، دار المعارف، القاهرة، 1984 ؛ أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005).

[2]   هنريك إبسن، بيت الدمية، ترجمة كامل يوسف (دمشق: دار المدى للثقافة و النشر، 2007)، ص. ص 43-45.

 

الديوانيـة و الإعـلام: منظـور تطـوري

قياسي

الديوانية مظهر أصيل من مظاهر الحياة الاجتماعية في الكويت. بروتوكولات الحوار فيها عفوية، طبيعية، و لا بأس.

خطاب الديوانية، بالنهاية، ليس خطاباً عاماً؛ هو لا يخاطب الكافة.

و لكن عوضاً عن أن يساهم إعلامنا في الارتقاء ببروتوكولات الحوار “الديواني” (من “ديوانية”) فيرتفع بها إلى مستوى العمل الإعلامي الاحترافي (إعداد، نقاش، معلومة منسوبة، إحصائيات موثوقة، متحدثون منتقون، توقيت، محاور، احترام، استماع، مسافات ذوقية)، أدرك إعلامنا أنه من الأسهل له دائما ً – مجهوداً و تكلفةً – أن يرمي بكل تلك الأعباء المرهقة وراء ظهره.

تحت غطاء ذكي من الشعبوية، قرر إعلامنا الهبوط ببروتوكولات العمل الإعلامي إلى مستوى الحوار “الديواني”، تماما على الوجه الذي ترد عليه في أكثر الديوانيات بساطة:

جلسة أرضية، نقاش غير ممنهج، متحدثون لا يضيفون لمعارفنا شيئاً (هذا إن لم ينتقصوا منها )، سلم موسيقي كامل من الأصوات الأوبيرالية الصارخة (تينور و ألتو و بيراتون و سوبرانو)، معلومات غير قابلة للتثبت تلقى على عواهنها، إضافة إلى “قهوجي”؛ و لا يهم مطلقاً إن غطى قهوجينا الكادر بظهره في تعارض مطلق و صريح مع ألف باء أصول الكادر التلفزيوني (ما هو دور “المخرج”، بالمناسبة؟).

بعد كل ذلك، من هو الملوم حقيقة؟

 الإعلام، الذي بدلاً من أن يرتقي بخطاب الديوانية قرر – استسهالاً – أن ينحدر به؟

أم نحن، الجمهور المتساهل، غير المتطلب، الذي لا يجد غضاضة بأن يقبل بأوضح أشكال الرخص فجاجة؟

الحـرب البـاردة: التـرف الـذي افتقـدناه

قياسي

كان أول من أطلق تسمية “الحرب الباردة” (guerra fria) هو أمير أسباني  يدعى خوان مانويل، وصفاً لحالة التوتر و الاستنفار الدائم التي كانت تسود حوض البحر المتوسط خصوصاً بين ملوك أسبانيا الكاثوليك من جهة و مسلمي الأندلس و أفريقيا الشمالية من جهة أخرى، لأن هذه الحرب كانت لها خاصية غريبة، من حيث أنها كانت تندلع فجأة دون سابق إنذار، ثم تتوقف لفترات غير محددة، من دون إبرام أية معاهدة سلام بين الفرقاء.

كان ذلك ترفاً.

الحروب الآن صارت تفتقر – و بشدة – إلى عنصر البرود.

حصـان طـروادة؟

قياسي

فرض:

عندما يكون الأطفال العرب وحدهم – دوناً عن جميع أطفال العالم – هم الذين لا يدرسون الدلالات الرمزية للميثولوجيا الإغريقية (بدعوى أنها “أساطير”)،  هناك ثمن يُدفع.

تطبيق:

مخرجات انتخابات الرئاسة المصرية تذكرني كثيراً بأسطورة هوميروس عن حصان طروادة:

في الصباح، يدخل الحصان الخشبي الجميل إلى المدينة كهدية.

في الليل، يخرج منه المحاربون.

أما كاساندرا، فلم يصدقها أحد.

الفضيلـة كتوسـط بيـن رذيلتيـن

قياسي
في الفلسفة اليونانية القديمة، كان هناك اتجاه تزعمه أفلاطون، يرى أن الفضيلة ما هي إلا التوسط  بين رذيلتين، هما الإفراط و التفريط.
هناك تطبيقات كثيرة لهذا الموقف الفلسفي، منها عبارة شهيرة للأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز و ردت على لسان أحد أبطال روايته Dombey and Son، يقول فيها:
 “Vices are sometimes only virtues carried to excess”.
الجدول من بعض مذكرات محاضراتي لطلبة القانون، في موضوع  التفرقة بين القانون و الأخلاق.

محيـط فيسبـوك و شاطئ تويتـر

قياسي

د. مشاعل الهاجري

26 يناير 2012

 

(فيسبوك):
محيط . عميق . مليء بالحيتان و أسماك القرش الضخمة، المتوحشة، التي يُعمل لها ألف حساب و حساب، و لكنك تثق دائماً في إنها لن تقدم عليك إلا برؤوس مكشوفة، و لن تهاجمك إلا من الأمام.

(تويتر):
شاطئ . سيف . مياه ضحلة، و لكنها مليئة بالشرايب و الفريالات و كائنات رخوية أخرى لا خطر منها؛ هي تقرص فقط ثم تعود بسرعة إلى الطين الذي خرجت منه. هذه الكائنات غير مصنفة علمياً و لذلك فأسماؤها دائماً مستعارة.

القذافـي: هـل مـات فعـلاً؟

قياسي

د. مشاعــل عبــد العزيــز الهاجــري

Mashael.alhajeri@ku.edu.kw

25 أكتوبر 2011

 -_

نعم، ليبيا كانت بحاجة إلى الثورة.

و لكن لا، ليبيا لم تكن بحاجة إلى مقتل القذافي بتلك الطريقة.

في الحقيقة، ما كانت تحتاج إليه ليبيا – تحديداً – هو ألا يقتل القذافي بهذه الطريقة بالذات، حتى يكون هناك بعض من مصداقية و شيء من أمل في العهد الجديد، لا سيما و أن العالم يجد نفسه واقفاً الآن أمام دولة غامضة، و هي دولة –  و إن كانت تبعث على التعاطف بسبب ما عانته تحت نظام القذافي – إلا أنها مقلقة من حيث انها دولة من طبيعة ابتدائية خاصة، على اعتبار أن القذافي لم يترك فيها أي إرث سياسي مؤسساتي سويّ (لا إدارات حكومية مستقرة، لا أحزاب فاعلة، لا نقابات عمال مؤثرة، لا جمعيات نفع عام معبرة، و لا أي شكل من أشكال المجتمع المدني الحقيقي)، الأمر الذي يجعل العالم يراقب التطورات في ليبيا و هو يضع يده على قلبه بسبب غياب النموذج التاريخي الذي يمكن الثقة في صلاحيته لأن يكون هادياً لللاعبين الليبيين الجدد، بحيث يمكن لهم الاسترشاد به في بناء دولتهم الجديدة.

عندما ارتكب قاتلو القذافي فعلتهم على الشكل البشع الذي نفذوها به، فاتهم إنهم إنما يتبعون نموذجه. بل، و لا أريد أن أبالغ، إننا إذا ما فكرنا بالأمر وجدنا أن القذافي – و هو المجرم المعروف بدمويته – كان أكثر كياسة من قاتليه: على فظائع جرائمه، كان الرجل يحرص على السرية و المداراة، على الأقل.

إن قيام قاتلي القذافي بالتصوير الاحتفالي لكل من مقتله و التمثيل بجثته، ثم  الخطب الرنانة المريضة – الصادرة عن جماعة من ذوي ربطات العنق المقرفصين بجانب الجثة العارية تماما، و هم من يفترض أنهم عقلاء الجماعة و ممثلو الضمير الديني فيها – هو أمر يظهر بوضوح أنهم، في تلك اللحظة من الزمن، كانوا جميعهم قذافيون.

يبدو ان القذافي لم يمت بعد.

فخرنـا المتحيـّز بحضارتنـا المُجتَـزَأة

قياسي

د. مشاعــل عبــد العزيــز اسحــق الهاجــري

Mashael.alhajeri@ku.edu.kw

8 سبتمبر 2011

 –

كلما فاخرنا بالحضارة العربية الإسلامية أطنبنا بالحديث عن عهد الخلافة الأموية في الشام و العباسية في العراق، و قد يتوسع الشاعريون منا – أحياناً – في أمثلتهم و استشهاداتهم فيمدونها حتى تصل إلى الخلافة الأموية في الأندلس.

ممارستنا التاريخية هذه هي ممارسة مازوشية بامتياز، فقد كان من نتائجها أن حصرنا أنفسنا في زاوية ضيقة من زوايا العالم الفسيح الذي أورثتنا إياه الحضارة الإسلامية، و بقينا فيه لعقودٍ طويلة.

إن كانت مظلتنا الروحية “إسلامية” فعلاً و بصفة خالصة، فماذا عن إرثنا الذي أهملناه و الذي تركه لنا “المسلمون” – كل المسلمين – على امتداد حواضرهم، تاريخياً و جغرافياً؟

أتحدث هنا عن السامانيون في خراسان و البويهيون و الصفوييون في فارس و العراق و الإسماعيليون و المغول في شبه القارة الهندية و التيموريون في وسط آسيا و الشرق الأوسط و الأيوبيون و الحمدانيون في الشام و الإخشيديون و الفاطميون في مصر و السلاجقة في آسيا و الأناضول و الأدارسة العلويون في المغرب و المرابطون و الموحدون في الأندلس و الأغالبة في ليبيا وصقلية وسردينيا و كورسيكا و مالطة و غيرهم كثير.

كيف سقطت من ذاكرتنا الجمعية كل هذه الحواضر الإسلامية بشعوبها و أحداثها و آثارها و مفاخرها التي تستحق إلتفاتنا و وعينا الكامل، إن كنا فعلاً ننطلق من منطق إسلامي خالص لا تشوبه شائبة سياسية؟

لنتفق: نحن – كمسلمين –  معنيّون بالإرث الثقافي الشامل لكل تلك الحواضر الإسلامية، تماماً مثلما نحن معنيّون بشام الأمويين و بغداد العباسيين. هذا هو معنى أن تكون “مسلماً” – و مسلماً فقط – منتمياً لحضارة “إسلامية” واحدة، واسعة، كبيرة و ملونة.

يدرك ذوي الوعي منا، بوضوح، أن السبب القديم للتعتيم و التعمية التاريخيين على هذه الحواضر الغنية “الأخرى” لحضارتنا الإسلامية يعود بالدرجة الأولى إلى عرابيّ الفكر الديني المسيطر  و لاختلافاتهم المذهبية و السياسية مع الميراث التاريخي لهذه الدول من جهة، ثم  إلى التزام سياسيينا بالاعتبار العروبي القومي الضيق من جهة أخرى، و هو الأمر الذي الذي دفعنا ثمنه على شكل غيمة داكنة و كئيبة من الجهل، لفت بظلامها أجيالاً كاملة منا.

في خضوعنا غير النقدي لهذا الخطاب الإقصائي الذي نجح في إلغاء الجزء الأكبر من كياننا الحضاري، كم ضيقنا واسعاً، و أضعنا من تاريخنا المشرف، و ألغينا من جغرافيتنا الكبيرة، و أهدرنا من أسبابٍ مركبةٍ للفخر، و حرمنا أنفسنا من تراثٍ يدعم صورتنا الثقافية أمام الآخرين (أدب، فن، فكر، علم، فلسفة، رسم، موسيقى، رحلات، تجارة، اتصال ثقافي، روحانيات). كل ذلك تحت دعاوى المذهبيات الحزينة.

فكرتنا عن أنفسنا صارت بحاجة إلى مراجعة جذرية. ما أدعو له هنا هو النظر في تعريف هويتنا الدينية بواسطة إعادة رسم ملامحها ثم زحزحة حدودها التي تم إقناعنا – على خلاف الواقع – بأنها حدودنا. علينا فعلاً أن نوسع تلك الحدود توسعةً أفقية (جغرافية) و توسعةً عمودية (زمنياً).

أنا لا أدعو إلى إعادة فتح أبواب الماضي؛ ما أدعو له هو فتح جميع أبواب الحاضر و نوافذه على مجالنا الحضاري بأكمله. و بذلك، فإن دعواي هذه تنتهي بأن تكون دعوىً مستقبلية بامتياز.

دريـس كـود للكويتيـات؟

قياسي

د. مشاعــل عبــد العزيــز اسحــق الهاجــري

Mashael.alhajeri@ku.edu.kw

21 أغسطس 2011

 –

عنيدات، نحن.

عنيدات، نحن.

– 

نظام اللباس المناسباتي الموحد  – الـ “دريس كود” dress code –  الوحيد لجميع الكويتيات، على اختلاف خلفياتهن الاجتماعية و على تباين درجة إلتزامهن العقائدي، هو ارتداء العباءة في مناسبات العزاء الحزينة.

الموت يوحدنا.

و مع ذلك، و للمفارقة، فإن ارتداء العباءة و ما يختلط بها من طقوس (كي دقيق، طي محكم، طيب فاخر، بخور ثمين) هو أقرب للممارسة الاحتفالية منها للحزن. لا أدري إن كنا بذلك نحتفي بالموت، نقبله، نتحداه أو نسخر منه.

أياً ما كان الدافع، أنا أرى في ذلك الجوهر الحقيقي للمرأة الكويتية:

عنيدة. حتى في الحزن لا تذهل.