Author Archives: redab70

About redab70

Eltibas ... I am a Law Professor at Kuwait University School of Law. This page was initiated due to popular demand (ie pressure exerted on me by my students at Kuwait University School of Law!). The philosophy behind this page is to serve as an extension to my classroom. Most of what you read here is based / a follow-up of topics previously discussed in my lectures. Academically speaking, my blog posts are my ‘footnotes’.

Are You Judging Me?! / د. مشاعل عبد العزيز الهاجري ‏23‏/01‏/2024

قياسي

Are You Judging Me?!

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

‏23‏/01‏/2024

نلاحظ أن أبناءنا الشباب تتكرر منهم عبارة “are you judging me?” المتداولة بينهم (لا سيما خريجي المدارس الأجنبية منهم)، و هي عبارة ترتكز على مفهومٍ يبدو طفولياً بسيطا، و معاصرا. و لكن حقيقة الأمر هي أن هذا المفهوم هو نتاج قديم للمسيحية، فقد جاء في الإنجيل: “لا تَدينوا لِئلاَّ تُدانوا. فكما تَدينونَ تُدانونَ” Do not judge, or you too will be judged  (إنجيل متّى 7: 1). كما أن الفكر العلماني، بعد الثورات الأوروبية في القرون الأخيرة، قد تبنى ذلك من خلال الفلسفة الفردية التي تُعلي من قيمة الفرد مقابل المجتمع. و مع ذلك، فحتى هذه الفلسفة توقِف الحرية الشخصية عند حدود المصلحة المجتمعية، بكوابح النظم و القانون، فلا تتعداها.

و عربيا، فلا شك أن عبارة “are you judging me?” الاستنكارية التي تصدر من المخطئ في الأماكن العامة – التي عادة ما يصاحبها تعبير الدهشة المفتعلة – لا تقصد إلا إلى إرهاب المُخاطَب بها، و أن الخضوع لهذا التأثير التخويفي لا يتماشى، أصلا، و ثقافتنا القائمة على الأدب و النقاش و الشجاعة و الصبر و التعلّم و ضبط النفس و سعة الصدر، و هي جميعها من قيمنا العريقة و المحدّدة لملامح مجتمعاتنا العربية.

أما إسلاميا، فلنلاحظ أن السماح للأشخاص بارتكاب الخطأ في الفضاء العام خوفاً من عبارة “are you judging me?” السمجة هو أمر فيه قطعٌ للطريق على مبدأ إسلامي أساسي هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فقد قال تعالى “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” (آل عمران: 110)، وقال “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (آل عمران: 104)، و قال كذلك” وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ” (التوبة: 71)، كما ورد على النبي ﷺ قوله “والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ”. كل ذلك، على خلفيةٍ – لا شك – من الاعتدال و عدم التطرف، و الأهم: الحكم السليم (good judgment)، للموازنة بين الفضاءين العام (المجتمعي) و الخاص (الشخصي).

لذا، و إثر جميع ما تقدم، فمن التناقض أن نحرص طوال سنوات تربيتنا لأبنائنا على أن نربي فيهم مَلَكَة الحُكم السليم على الناس والأشياء (good judgment)، ثم نتركهم بعد ذلك رحمةً للإرتباك عندما يعترضون على خطأ يرتكبه أمام الجميع أحد قليلي الذوق و الحياء، ممن يتمترسون وراء هذه العبارة السمجة، فيسألون، بصوتٍ وقحٍ و عال:

  • “ماذا؟ هل أنت تطلق حكماً علي؟!” (are you judging me?).

و الجواب الذي ينبغي أن نعلّمه للأبناء هو الإجابة المؤدبة – و لكن الشجاعة و غير المتردّدة:

  • “طبعاً، و بالتأكيد!  أنا أحكم على تصرفك و أصمه بالخطأ، و لا أقبله. أما أنت – و مع كل الإحترام – فلا أعرفك كشخصٍ و لا تعنيني”.

بلي؛ نحن نحكم على تصرفات الأشخاص، و نعطي لأنفسنا الحق في ذلك، شريطة أن تكون مرجعياتنا سليمة: الأدب و الأخلاق و القانون و المجتمع و الدين … و المنطق.

أما عن كيف يُفترض بالأبناء معرفة الموازنة بين كل ذلك؛ فهذا دورنا كوالدين، و دور الزمن و الحياة.

سيتعلمون.

بيــــن الإبحــار والغــــرق: مقاربــة لمــا بعــد الحداثــة فــي الفكــر القانونــي العــربــي / د. مشاعل عبد العزيز الهاجري – الكويت 2023

قياسي

بيــــن الإبحــار والغــــرق:

مقاربــة لمــا بعــد الحداثــة فــي الفكــر القانونــي العــربــي

د. مشاعــل عبــد العزيــز الهاجــري

‏الكويت، 2023

هَل صَحَّ قَولٌ مِنَ الحاكي فَنَقبَلَهُ

أَم كُلُّ ذاكَ أَباطيلٌ وَأَسمارُ

أَمّا العُقولُ فَآلَت أَنَّهُ كَذِبٌ

وَالعَقلُ غَرسٌ لَهُ بِالصِدقِ أَثمارُ

– أبو العلاء المعري.

لمصطلحي “الحداثة” (Modernism) و “ما بعد الحداثة (Postmodernism) طبيعة إشكالية. وإذا كان الأول أكثر انضباطا بسبب ارتباطه بالمسيرة التنويرية وتعبيره عنها، فإن الثاني يخالطه ارتباك كبير، من حيث ما ينطوي عليه من تشكك في مكونات العالم الواقعي، رفض السرديات الكبرى، نقد المركز لصالح الأطراف، حمد الغموض الخلاق، نبذ الشمول لصالح التعدد، ارتباط المعنى بالاستعمال اللغوي، وعداها. ويبدو الأمر أكثر تعقيداً في الثقافة العربية، بالنظر إلى ما مرت به هذه من اضطرابات تاريخية وآيديولوجية ومعرفية.

وفي حين تزخر العلوم الإنسانية بالتناولات ما بعد الحداثية، فإن الحقل القانوني يبدو قاحلا وفقير الإنتاج، لا سيما في منطقتنا من العالم، التي لا تبدو مصنعة لهذه الاتجاهات بقدر ما تبدو مستهلكة لها، سواء كما ظهرت في أوروبا القارية أو كما تطورت في العالم الأنجلوسكسوني. ولا يتعلق الأمر بظهور مذاهب فقهية قانونية ما بعد حداثية مباشرة، وإنما بانعطاف فكري ضمن الحقول المعرفية الإنسانية الأخرى، تم استيراد تقنياته واستزراعها في حقل القانون، إما لأغراض سياسية (وهو الشائع) أو من قبيل الترف الفكري التجريبي أحيانا (وهو الأقل ذيوعا، على أن فائدته الأكاديمية كبيرة).

فتعقيد أدبيات القانون -هذه الأرض المجهولة و غير المكتشفة للكثيرين (terra incognita)- يعزى إلى أمور عديدة (كاللغة والتشريعات و الأحكام القضائية)، هو أمر ينتهى إلى أطنان من المعلومات المتراكمة، تؤدي في أحيان كثيرة الى سوء فهم للقانون، ناهيك عن تركيبه المتداخل القائم على المعايير والأنساق. يضاف إلى كل هذا التعقيد ما يقدمه القانون للحياة العامة من أفكارٍ يصعب تمثلها عقليا (كالشخصية المعنوية والعدالة الانتقالية مثلا). وبذلك، فمعرفة الناس بالقانون عموما هي معرفة سطحية نوعاً ومشتتة تناولا.

فحتى القرن العشرين، سادت الوضعية القانونية الصرفة (Positivism) التي تتطلب الفكر النسقي الواضح، وكان لها أثر كبير على النظم القانونية الأوروبية. كان من نتيجة ذلك أن العدالة، رغم أنها صارت غير غائبة عن القانون، إلا أنها أصبحت “مستغرَقة” فيه (بل وقد تتراجع عنه خطوة الى الخلف أحيانا، إن تطلبت اعتبارات التنظيم أو الاستقرار ذلك). هكذا، فقد صار للعدالة، كما يقدمها القانون، معنى إجرائي/ ميكانيكي، وغير عادل بالضرورة (قواعد التقادم و عدم سماع الدعوى بمرور الزمان مثالا). ورغم ذلك، فبالمقارنة بالمرجعيات الأخرى من أدوات ضبط اجتماعي (كالأخلاق والدين والعرف والقانون الطبيعي بمعانيه المتعالية)، تظل المسطرة المنضبطة والموضوعية الوحيدة التي يمكن أن يحتكم إليها المجتمع في فوضى المنظور الشخصي للأمور، والذي يختلف من مرجعية لأخرى، هي مسطرة القانون وحده. بذا، أصبح القانون يصنف باعتباره حقلاً معرفياً معياريا، فهو يعنى ببيان المفروض، لا الكائن.

هذه الصفة المعيارية للقانون تجعله من أدوات الحكم التي تسمح بتوجيه المجتمع وتشكيل السلوك فيه، من خلال القواعد المستقاة من نصوص التشريعات وأحكام المحاكم. بالفعل، لقد شبهت هذه بأنها “المادة الخام للقانون”. ويمكن هنا القول بأن القانونيون يمارسون -من خلالها- دورا هو إلى الهندسة أقرب، من حيث أنهم يصممون البنى الاجتماعية بصورة تماثل دور المهندسين في تصميم البنى المادية. وللمتأمل أن يرى بوضوح أن أدوات القانون كالعقود، الشركات، الصناديق الاستثمارية، التشريعات والدساتير، ماهي سوى مبان، جسور، طرق، وسكك حديد للحياة الاجتماعية.

يجد كل ذلك قواعده في فكر “الحداثة”، المرتكزة على اشتغالات ديكارت؛ ذاك الذي غير مسار الفلسفة فخرج بها من غموض الميتافيزيقيا الى نشاط الإبستومولوجيا. لقد قعّد ديكارت المعرفة من خلال رفض أي ادعاء ينطوي على الجزم من دون إستناد إلى دليل عقلي واضح ناتج عن بحث، شك منهجي، تفكير انتقادي، تجربة، برهان وعلاقات موضوعية. كان نتاج كل ذلك هو ترسيخ فكرة العقلانية الموضوعية كسبيل نحو تحصيل الحقيقة.[1]

استقر هذا الفكر العقلاني واتسع بعد ذلك على يد آخرين في مغامرة إبستومولوجية رائعة نحو توليد المعنى، شكّلت مراحل مفصليّة في تاريخ الفكر الغربي، لينتهي الأمر معه من نظر قديم يرى الكون متمركزا حول الخالق إلى آخر حديث صار محوره هو الإنسان. أحيط ذلك بظروف “توليدية” قادت لنضوج المرجعيات الفكرية للمجتمعات، كعصر النهضة، الإصلاح الديني، الصراع ضد الإقطاع وسلطة الكنيسة، وعداها من أوهام أو عوائق كانت تمنع الإنسان من الاستخدام الأمثل لعقله،[2] ليحل محلها محركات فكرية كالنزعة الإنسانية والتنوير والثورات التغييرية، ومن ثم انتشر ما نجم عنها من تحولات مست العالم ككل، من خلال المثاقفة والتجارة والملاحة والاستعمار.

وبالرغم من غموض بدايات الفكر الحداثي الذي قاد لكل ذلك، فهناك العديد من المواقف المرشحة لأن تعتبر -مجتمعة- شرارته التاريخية، مثل اختراع جوتنبرغ للمطبعة (1440)، الفتح العثماني للقسطنطينية (1453)، الاكتشاف الكولومبي لأمريكا (1492)، تعليق لوثر لأطروحاته على باب كنيسته (1517) إنشاء شركة الهند الشرقية (1600)، ناهيك عن الثورات الدينية والصناعية والفرنسية والأوروبية. من خلال هذه، وأخرى كثيرة، صار الطابع الحداثي يغلب على القانون، بما هو علم.

و هكذا، ففي حين بدأ القرن الثامن عشر فضولياً يتلمس طريقه بين الخيطين الأسود و الأبيض، فقد انتهى كباحث متمكن يحتكم على قدرات هائلة من التفسير و الفهم، لم تتح له من قبل. في هذه المرحلة المثيرة من الزمن، شرعت الأبواب واسعة أمام العقل البشري. كانت الحداثة، بما جاءت به من عقلانية و تنوير، بوابة للحضارة.

ومع ذلك، فإن الحربين العالميتين وقسوة رأس المال واغتراب الصناعة والضمور الأخلاقي والارتباك الديني وتوترات السياسة واختلال البيئة، كل ذلك أدى إلى فتوحات فلسفية عديدة رمت بمنجنيقها على هذه البوابة حتى تخلخلت مفصلاتها، أو كادت.

لقد بدأ الأمر بـ “كبار الشُكّاك”: ماركس ونيتشه وفرويد، الذين أدخلوا الفكر إلى عصر التداخل واللبس والاشتباه بعد أن أعملوا معاولهم الفكرية -بعنف- في العقل والعلم والإنسان والتقدم وجميع الوعود التي جاءت بها الأنوار[3] (كان فوكو في مقدمة كتابه “الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي” يتحدث عن ثلاثي الشك هذا وما تسبب به من “جرح نرجسي” للفكر الغربي). وجاءت الوجودية بعد ذلك (التي يقال أنها الأساس الفلسفي لما بعد الحداثة) فأربك الفرنسي سارتر و الألماني هايديجر المشهد أكثر حين أصرا على دعاواهما النسبية في أن “ما هو حقيقي بالنسبة لك، قد لا يكون كذلك بالنسبة لي”.[4] ثم تبعهما آخرون مثل فتغنشتاين (اللغة تعيق الحقيقة)، وفوكو (الخطاب لا ينفصل عن السلطة)، ودريدا (هذا التفكيكيّ المزعج الذي شرّح كل نص وكشف كل كلمة في سياق لا متناهٍ من مناقضة السائد).[5] استمر ذلك مع كثير عداهم: فسادَ الشك، و زُعزِع الأمان الفكري، ورُبطت الحقيقة باللغة، وانتقل النظر من سكينة الموضوعية إلى قلق الذاتية، وخضعت السرديات الكبرى لمباضع الجراحات الفكرية.

لقد تضعضعت الحداثة، بما هي بوابة للحضارة، وأشرعت على مصراعيها، وتجمّع في الأفق شيء جديد، غامض، وصارت الأرض مفتوحة للغزاة القادمين الذي أتوا بأسلحة ثقيلة من الأفكار التي ظلت كامنة لعقود طويلة: مفكرو ما بعد الحداثة. أصبح القرن العشرون زمناً للمعركة ومكانا لها.

كان القتال عنيفا. و مع القتال، غموض: مكر فكري؛ ممتع ومغامر ودجال وصادق وعبثي وخطر. في الأمر ما يذكر بوصفة اليسوعي الأسباني بالتزار جراسيان التي وضعها في القرن السابع عشر: “أحط أعمالك بشيء من عدم الوضوح … إخلط قليلا من السحر مع كل شيء؛ عندها، ستثير الإجلال”.[6] هناك من كان يقرأ جراسيان، على ما يبدو. تحفل أغلب الأعمال ما بعد الحداثية بعدم الوضوح المفاهيمي واللغة الملتبسة كأدوات حاضرة دائما. الأمر يسوق كاحتفاء بالاختلاف وكشف لآفاق جديدة.

ولكن حتى الفكر ما بعد الحداثي ذاته لا يعرف -تحديدا- ما المراد بـ “ما بعد الحداثة”؛ كل ما يعرفه هو أنه قلق، متشكك، ويشير بأصابع الملامة إلى المركز، كي يحل محله المهمش والمقصي ومتطلبات المرحلة وكل ما هو ممكن ومحتمل، بل ولامعقول. هناك قناعة بوجوب التوقف عن وهم المعنى الأوحد/المرجعية وإفساح المجال لـ “الحقائق” العديدة؛ لا الحقيقة الواحدة. ولكن هل الأمر جديد فعلا؟ ألم يؤثر عن هربرت سبنسر أيضا أنه كان “يعدل مبدأه، ثم يعيد تعديله بحيث يصبح قانونا فضفاضا ينطبق على أي شيء، حتى يخالجك الشك في أن عكس القضية قد يكون صحيحا أيضا”.[7] بلي: الأمر مع ما بعد الحداثة جديد، فقلق سبنسر هو قلق معرفي يهدف إلى البقاء بداخل العقلانية لا خارجها، في حين يقلق ما بعد الحداثيون لأنهم يرومون القطيعة عنها.

ما عاد العقل ضامناً للحقيقة.

كان لا بد لذلك أن يحدث. فالدول المعاصرة، وإن كان كل منها يشكل كيانا عضويا واحدا، إلا أنها ذات طبيعة تعددية، فتتولد عنها الكثير من المجتمعات الفرعية. ووفقا لهذه، فإن القانون -بعكس طبيعته الحالية المنغلقة على نصوص جامدة تطل علينا من منظور مهيمن- ينبغي أن يكون نظاما مفتوحا، متجددا، مستوعبا للتغيرات: “قانون حي” ذو موقف إبداعي. لذلك، فإن الفقه القانوني ما بعد الحداثي ينتقد العقل القانوني التقليدي المرتكز على مبادئ ثابتة شكليا (التراتبية القانونية) وموضوعيا (قيم الحق والعدالة والمساواة الخ) وما ينتج عن ذلك من فرض للتجانس والتوحيد الثقافيين، ويقصد لتقويض ذلك واستبداله بالتنوع الذي يفسح المجال لإطلاق الحركات المقيدة من عقالها.

لنتفق، بداية، على أن ما يعرف بـ “ما بعد الحداثة” ليست بنظرية أو مذهب أو حتى محتوى؛ إنها “تقنية”، أو -إن شئت- منظور إلى العالم: ممارسة جمالية تتناقض مع “النظرية الكبرى”، أو الأنماط الهيكلية أو المعارف التأسيسية، فهي لا تقدم نظريات بديلة، وإنما -بشيء من التشاؤم المعرفي والعدوانية المنهجية- تلفت النظر إلى الزوايا والأطراف وكل ما هو بعيد ومغيب فتتنادى بالالتفات إليه (كحقوق المهمشين والمستبعدين والأقليات مثلا). كما أنها، في كثير من الأحيان، ليست بالكتابات القانونية (أو حتى السياسية حقيقة) بقدر ما هي كتابات ضد السلطة، تتسم -في كثير من الأحيان- بشيء من الفوضوية واللامعيارية،[8] لتحلق في فضاءات العلوم الاجتماعية وتستكشف أراضٍ جديدة على الحدود الفاصلة ما بين الحقول المعرفية، لا سيما تلك الكائنة بين السياسة والقانون.

 لقد جاء الفكر ما بعد الحداثي ليكون بمثابة محاولات تمرد على السلطة وتحد لها من مصادر متعددة (فلاسفة / حركات سياسية / تجمعات نسوية / حماة للبيئة) ولكنها موجهة دائما نحو الحداثة كهدف، وهي مساعٍ تشككية أحيانا وتفكيكية أحيانا أخرى، بتساؤلات أنطولوجية تسائل المعنى دائما، و تقصد إلى تقويض ما يسم الحداثة من مركزية أو أسس أو أنساق أو مسلمات عقلانية متولدة عن عصر التنوير.[9] لقد كان الاستنتاج الذي لا مفر منه هو أن “كل فهم للحقيقة لا يكون إلا بدلالة التاريخ و الثقافة”. فلا قيم عالمية إذا؛ بل الأمور نسبية، يحددها ظرفا الزمان والمكان دائما. وهكذا، فإن الكاتب ما بعد الحداثي هو فيلسوف يعمل من دون نظرية أو قواعد.

لن نجد للأمر تعريفا قاموسيا مريحا، لأنه ينطوي على معضلة فكرية، إذ قد يفقد المرء معني “ما بعد الحداثة”، فتتفلت من يده، إن هو حاول وضع تعريف لها. فلفظ “تعريف” بحد ذاته هو لفظ “حداثي” بشكل ما بما هو يضع أطارا لمفهوم ويؤسس لفكرة، مما يؤدي لثباتها ومن ثم جمودها، وهو ما يتناقض والفكر ما بعد الحداثي الذي ينفي وجود الحقائق الموضوعية. يا لها من أنتروبيا فكرية حقيقية.

من هنا، فإن من سمات السرد ما بعد الحداثي هو أن المبادئ الإنسانية الكبرى للقانون -كالحق والعدل والمساواة- وإن كانت محايدة نظريا إلا أن مفاعيلها قد لا تكون كذلك بالضرورة، كما أن المعاني سياقية، والأمر مرهون دائماً بالبوصلة والاتجاه ومعادلات المال والسلطة. “من يملك العملة يمسك بالوجهين / والفقراء بين بين”؛ كما كتب أمل دنقل في الستينات.

هكذا، ينبغي الاعتراف بأن القانون ما هو -في جانب معتبر منه-إلا منتج للإملاءات السياسية المرحلية، و من ثم فهو تعبير مكثّف عن ميزان القوى المجتمعي. يذكرنا الأمر بصيغة هوبز الكلاسيكية التي تقول أن “السلطة -لا الحقيقة- هي ما يصنع القانون” (auctoritas non veritas facit legem). لقد كشفت ما بعد الحداثة عن القلب المظلم للحداثة: إرادة القوة. في درسه الجامعي الأول فيCollège de France ، حذر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الحاضرين مما له من سلطة عليهم، و المخولة له فقط لكونه يقف على المنصة: لقد نبه إلى “الموقع” وعلاقته بـ “السلطة”.

من جميع هذه المقدمات، يستدل ما بعد حداثيو القانون على أن القانون لا يعدو أن يكون إطارا شرعيا لتكريس أشكال الهيمنة داخل المجتمع، سواء كان ذلك من أجل تكريس عرق أو طبقة أو مصلحة أو توجه، وأنه أبعد ما يكون عن أن يصلح إطارا موضوعيا صالحا للفصل في الخصومات.[10] في سبيل ذلك، هم يرفضون الوضعية القانونية باعتبارها إمبراطورية للهيكل، من حيث أن التمسك بها ينطوي على إهدار لقيم العدالة المتحركة، المتفلتة.

لما كان لهؤلاء الغزاة ما بعد الحداثيين ترسانة كاملة من الأسلحة الفكرية الثقيلة التي يوجهونها نحو الحداثة بقصد ضرب جدرانها الركينة، بجدوى تارة و من دون جدوى تارة أخرى، فقد قاد ذلك إلى التشكيك بما أسماه الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار بـ “السرديات الكبرى” (meta-narratives)،[11] و هي النظريات الشمولية أو الأنساق الفكرية من قيم و دين و فلسفة وعداها، و التي تتمثل بداخل القانون بالمناطق الحرجة فيه (كالملكية وحقوق الإنسان مثلا)، فتزيل عنها كل ما يخالطها من مفاهيم وموثوقية.

يتعلق بالأمر بـ “تفكيك” هذه الأفكار الكبرى لخلخلة السائد، ثم إعمال معاول الهدم فيها للخروج بمفاهيم جديدة، حتى ينتهي الأمر باختلاف وتعددية بل وعشوائية (وربما لا معنى أيضا)، لتصير كل أطروحة محض سياقية. والتفكيك -و إن كان ليس سيئاً دائما بالضرورة- إلا أنه مزعج، و مشظي، كما أنه يمكن أن يضيع الصورة الكبرى لصالح مكوناتها. في القرن الثالث عشر، كان الرحالة الإيطالي ماركو بولو يصف أحد الجسور لخاقان المغول كوبلاي خان، حجراً حجراً. فسأل كوبلاي خان: “و لكن على أي من هذه الحجارة يستند الجسر؟”، أجاب بولو: “الجسر لا يستند على أي حجرٍ بذاته، بل على القوس الذي تصنعه الحجارة”. بقي كوبلاي خان ساهماً لفترة، ثم قال: “فلماذا تحدثني عن الحجارة إذا؟ القوس هو ما يهمني”. رد بولو: “لأن من دون هذه الحجارة لا وجود للقوس”.[12] يحول التفكيك القوس الى حجارة، و هو يظل يفعل ذلك إلى أن يضيع القوس، فلا يتبقى لنا إلا هذه الحجارة. لو كانا بيننا اليوم، لكان كوبلاي خان حداثيا، وكان بولو ما بعد حداثي.

وهكذا، فإن الاشتغالات القيمية لما بعد الحداثة لا تملك فكرا متعاليا، بل تتعلق -بالدرجة الأولى- بموضوعات راهنة ومحددة، مثل النسوية وحقوق الأقليات وحرية التعبير وحقوق المرأة وأوضاع المثليين والإجهاض والموت الرحيم والطب الحيوي والذكاء الاصطناعي والفوضى الجينية والتعددية الثقافية والمشكلات البيئية و ما شابه.

تطبيقاً لذلك، فإن فكرة الملكية كما ظهرت في القانون المدني الفرنسي لسنة 1804 هي -وفق الفكر ما بعد الحداثي- لا تعدو أن تكون تعبيرا مباشرا عن الفكر البرجوازي الحداثي، إبان صدور هذا القانون، ونظرته إلى الملكية كقيمة عليا تتطلب أقصى أنواع الحماية، مما يعني أن أغلب بقية أفكار القانون المدني هي مجرد أسوار حامية لها (كالعقد والمسئولية التقصيرية)، و هي الفكرة التي بدأت، لذلك، بالتفكك و التحلل تباعاً مع دخول الأفكار الاجتماعية إلى الفكر العام (كالتأمينات الاجتماعية أو حماية العمال مثلا).

ورغم كل ما تقدم، فهناك من يقول بأن ما بعد الحداثة ما هي إلا خلف راديكالي مكثف للحداثة ذاتها (بطريقة تاريخية خطية)، بحيث أن الواحدة منهما لا تعدو أن تكون في حقيقتها الجانب الآخر للثانية. ربما كانت أطروحة “يانوس” هذه -الكائن الأسطوري متعدد الأوجه- تستحق التفكير.

في تناوله لما قد يشوب القانون من تحديات، يتحدث دريدا بطريقه لا تعبر عن رضاه عنه: بالنسبة له، هناك “شيء ما متعفن في القانون، وهو شيء إما أن يدينه أو يدمره ابتداء”،[13] كما أن نسق القانون الحديث يعاني من “مرض المناعة الذاتية”، وهي تتهدده من داخله.[14] لذلك، ووفقاً له، فإن التفكيك سيكون في مكانه الطبيعي بل “في بيته” في كليات الحقوق، أكثر منه في أقسام الفلسفة أو الأقسام الأدبية.[15]

هكذا، يتضمن المنظور ما بعد الحداثي فكرة تجزيئية للقانون. فدريدا، مثلا، ينادي بـ “التفكيك” حلا؛ ابتداء من المناخ السياسي و انتهاء الى شخصية القاضي. أما بالنسبة لجيل دولوز و فيلكس غوتاري، فيتعلق الأمر بفكرة “الجذمور” (rhizome)، و هو مفهوم فلسفي مستقى من علم النبات، يفيد التعددية و التمدد و الاتصال بطريقة أفقية من دون أصل مصدري، بالمقارنة بالنموذج الحداثي الأشبه بالشجرة التي تمتد رأسياً و خطيا (ربما كانت الإنترنت مثالا على الجذمور، فيما المؤسسات القانونية -بهياكلها الإدارية المتفرعة- نموذجا شجريا ملائما).

و كل ذلك، و عداه، هو وعاء لأفكار مقسمة كبرى، مثل العدالة العريضة و المنظور الفقهي الواسع و الحقيقة النسبية و التفرقة بين صنع القانون و إنفاذه و الفكر القضائي الذي لا يغفل التعدد الثقافي و تباين الخبرات و تعارض الإرادات، و عداها.

المنطق لا يلتوي لوحده؛ هناك من يجب أن يعمل على ذلك: مثقفون و مسوقو آراء و غاسلو أدمغة، كما أسماهم بريخت، يلوون عنق الأفكار و يتلاعبون بالألفاظ. و هذه المداورة هي مثلب أخلاقي ينطوي على خطر، و كما قضي فإن “الحقيقة ليست بنت التهويل و المبالغة بل هي بنت البحث الهادئ و الجدل الكريم”.[16]بخلاف ذلك، فإن تأثير هذه الأبواق كبير، و لا ينبغي الاستهانة به (ألم يورد سفر يشوع قصة مدينة أريحا التي سقطت بمجرد نفخ الأبواق؟)[17] إنها “ضوضاء بوق اللاشيء” بالمعنى الكافكوي،[18] و مع ذلك فإن تأثيرها قد يكون عظيما. في كل ذلك ما يذكر بسفسطائيي أثينا القدماء؛ الأمر لا يتعلق بإنكار الحقيقة، بل بإخضاعها للمنظور الشخصي. وتتضاعف الخطورة إن تعلق بالقانون تحديدا؛ سواء صياغة تشريعية أو تطبيقا بيروقراطيا أو تفسيرا قضائيا (بل حتى تناولا أكاديميا).

من هنا، فإن القوانين المعاصرة، و منها العربية (رغم تحدياتها المؤسسية و البيروقراطية المعروفة) لما كانت ترتكز على الفكر الحداثي، فإنها لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بالعقلانية و التقنية، بعيداً عن الفوضى و الشواش. الأمر في ثقافتنا قديم، وقد تنبه له أبي إسحاق الشاطبي عنما لفت النظر إلى أهمية ألا يقوم العلماء بـ “تشويش العامة” في مناقشتهم للنوازل حتى لا يكون في ذلك “فتح لأبواب الخصام”.[19]

هكذا، ربما كان يجب أن نفكر في ما بعد الحداثيون كما لو كانوا سفسطائيي القرنين العشرين و الواحد و العشرين. كانت لسفسطائيي أثينا القديمة – و لا تزال – سمعة سيئة كمثقفين منافقين ومموهين؛ مرتزقة، يقبضون ثمن معرفتهم. ومع ذلك، قد تكون تلك سمعة مبالغ فيها و تحمل الكثير من الأحكام المسبقة.[20]فالسفسطة ليست سيئة بالضرورة، إذ لنتذكر أنه بينما كان فلاسفة المدرسة الأيونية يكرسون أفكارهم للبحث عن الطبيعة الخارجية، اتجه السفسطائيون إلى المشاكل السيكولوجية و الأخلاقية و الاجتماعية، و كان لهم فضل في مناقشة الأساس الطبيعي للعدالة.[21] ألم يكن بروتاغوراس، هذا المفكر المعتبر، واحداً منهم؟

يصر المنظور ما بعد الحداثي على فكرة قانونية مركزية، مفادها هو أن القاضي لا يمكنه التجرد من محيطه وأهوائه وانتماءاته وأفضلياته وهويته وعقيدته (أو لا-عقيدته) الدينية وتصوراته الاجتماعية ومنظوره للحياة، وأنه -مهما ادعى أو حتى حاول بصدق- فهو بالنهاية جزء من نسيج مجتمعه وإحداثيات زمانه ومكانه معا. إن هذا يعني وجوب أن يقلل القاضي من ربط أحكامه بالمعاني المتعالية كالعدالة والقانون الطبيعي، وأن يلتفت إلى الواقع أكثر، فيربط أحكامه به، بأن يوضح أسبابها وأسسها المرحلية و مآلاتها.[22]

وفي ذلك، يرى دريدا أن القاضي، في كل مرة يفسر فيها القانون، إنما يصنع تفسيرا جديدا له. فعلى الرغم من التسليم بتقيد القاضي بنصوص القانون الوضعي وقيمه التي يسوق لها، إلا أن عليه، في الآن ذاته، أن يفسر القانون بحيث يكشف في أحكامه، كل مرة، عن معنى جديد لم يتضمنه سياق النصوص، وكأنه يصنع قانونا جديدا في كل قضية (بما يستدعي إلى الذاكرة ما كتب ابن رشيق قديما من أن “لكل كلام وجهٌ وتأويل”). بعبارة أخرى، فإن دعوى ما بعد الحداثة هنا هي أن حكم القاضي يجب أن يلتزم بالقانون وأن يدمره في الآن ذاته.[23]

يبدو أن هذه الحجة قد لاقت قبولا ما. ففيما عدا العالم العربي تقريبا، يندر أن تجد اليوم قضاء لم تمسسه موجة النشاط القضائي (judicial activism) المتأثر -بطريقة أو بأخرى- بالأفكار ما بعد الحداثية، وإن بعدت. فعبر العالم، هناك موجة عامة تشجع المحاكم العليا على ممارسة النشاط القضائي الفاعل بغرض تحقيق فوائد “متوسعة” للمجتمع ما أمكن، وقد ظهر في السنوات الثلاثين الأخيرة عدد من القضاة الفاعلين الذين خرجوا بأحكام ملفتة في النظم القانونية جنوب الآسيوية (الهند تحديدا) من أجل الخروج بعدالة أفضل والتزام دستوري أعلى (يظهر هذا التوجه أوضح ما يظهر في نطاق القانون العام -في مجال حقوق وحريات الأفراد من جهة والتزامات الدولة من جهة أخرى- أكثر منه في نظيره الخاص).

من المهم أن يكون في مجال الفكر القانوني من يرفع سقف التفكير، فيثير كل ما هو مستغرب ومستبعد وغير محتمل و مصطدم مع القناعات السائدة. وقد يكون الفكر ما بعد الحداثي مشوب بكثير من الفوضى والتشظي بل و التحلل القيمي أيضا، ولكن -و بالمقابل- هذا لا يعني أنه خليّ من الخير للواعين، الذين يعرفون ماذا يأخذون و ماذا يتركون. التجديد لا يكون إلا بتحريك سرير الطمأنينة.

و لترجمة هذا المنظور إلى عمل، فقد يكون من المفيد استغلال تقنيات ما بعد الحداثة (على فرض أن لهذه وجود منتظم، حقيقة) قبل التفكير في إصدار قانون ما. قد يمكن إذا الاستفادة منها من خلال رسم أفق عام للمدى الخاص بالأفكار القانونية قبل التشريع لها؛ ويمكن التمثيل هنا بموضوعات مثل المصالح الأجدر بالرعاية (المسئوليات المدنية) / مسائل الذكاء الإلكتروني المستحقة للتشجيع مقابل تلك التي تستوجب التجريم (الجرائم الإلكترونية) / عيوب التشريع (الصياغة) / العقوبات البديلة (قانون الجزاء) / العقود الذكية (البلوكتشين)، نظرات نقدية بشأن الفاعلين الدوليين (القانون الدولي) / الحدود العادلة للملكية الفكرية (العقود)، توزيع المخاطر في عقود النقل البحري (علاقات النقل)، و عداها.

بذلك، ورغم ما سبق من تحفظنا على عدم انضباطه، فقد يكون لدى المنظور ما بعد الحداثي ما يقدمه للقانون، وما أراه هو أنه ينبغي التعاطي مع دوره هنا بالتفرقة بين مرحلتين: ففي المرحلة الأولى، يمكن الاستفادة من الآليات الفكرية الواسعة لما بعد الحداثة في مرحلة ما قبل إصدار التشريعات من حيث الارتفاع بسقف الفكر والبحث الحر الذي لا يقف عند السبب الأول للأشياء (بما يذكر بالإستغراض الماركسي الذي يبحث عن السبب الحقيقي وراء كل شيء). أما في المرحلة الثانية، مرحلة ما بعد إصدار القانون، فلا. إذ لا بد في هذه المرحلة من الالتزام بالوضعية القانونية وحدودها الواضحة التي تتطلبها قواعد التفسير القانوني.

وبعبارة أخرى، فإن مغامرات ما بعد الحداثة الممتعة و لكن الخطرة (من استكشاف ومقاربة وتخطي واجتراء) قد تكون تمرينات فكرية جد مفيدة في السياقات الأكاديمية والتنظيرية، كما أنها تفتح مغاليق الفكر وترفع من آفاقه، و يمكن (أو ربما يجب؟) أن تمارس في فترة التحضير لإصدار التشريعات المختلفة، ولكن ما أن تصدر هذه التشريعات فعلا فإن الأمر ينبغي أن يتوقف، فلا تمارس من قبل القضاة أو جهة الإدارة، حرصا على وضوح الخطاب وانضباط التنفيذ واستقرار المراكز القانونية؛ فالقانون إن لم يكن كل هذا فلا لزوم له أصلا.

لذلك، فكل ما تقدم من دور القاضي ينبغي أن يتم في إطار العقلانية الحداثية، فلا يتعداها إلى ما هو متفلت أو غير منضبط أو عدا ذلك مما يسوق له الفكر ما بعد الحداثي (مع التأكيد على أن الانفتاح عليه يظل متاحا -بل ومطلوبا- من العقل النقدي الأكاديمي طبعا، وباستمرار، وفق ما تقدم ذكره عن المرحلة الأولى). هكذا يبحر القانونيون في تيارات البحر ما بعد الحداثي -الغادر لمن يصدق هدوءها والواعد للمتحرّص منها- من دون خشية الغرق في لجته.

لا شك أن العقلانية الحداثية هي سارية مركب القانون.

قرأت مرة بحثاً كتبه غوستافو زاغروبلسكي الذي كان رئيساً للمحكمة الدستورية الإيطالية و قاضياً في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وصف المحاكم فيه بأنها “أرستقراطيات علم” من حيث أنها مدعوة لإيقاف انحدار الديمقراطية و تحولها إلى ديماغوجية، وإلى تحديد نقطة حازمة للتطور العقلاني للمجتمع.

بذلك، فالقضاء (بقضاته وبأعوانه وبمحاميه) ينبغي أن يكون جزيرة للعقل وسط فوضى الآراء. حقا، ينبغي أن تكون المحاكم هي الطليعة العقلانية للمجتمع؛ هي في ذلك أشبه ما تكون بموسى العهد القديم، الذي تمثل قدره في اخراج شعبه من تيه الصحراء وقيادته نحو أرض ميعاد الحياة الدستورية.

قدر القضاء -والعاملين في منظومته- قدرهم أن يكونوا دائماً خصوماً للعاطفة؛ معقل الرشد وحصنه الأخير.


[1] Immanuel Kant, Critique of Pure Reason (London: J. M. Dent & Sons, 1959), p. 62.

[2] مديحة دبابي، “ما بعد الحداثة: سؤال المصطلح و المفهوم”، في: علي عبود المحمداوي و آخرين، خطابات الـ “ما بعد”: في استنفاد أو تعديل المشروعات الفلسفية (الرباط: منشورات ضفاف، الرابطة العربية للأكاديمية الفلسفية، مسائل فلسفية، 2013)، ص. 138.

[3] مجدي عبد الحافظ، “موقع العقل في فلسفات ما بعد الحداثة”، عالم الفكر (الكويت)، العدد 2، المجلد 41، أكتوبر – ديسمبر 2012، ص. 147.

[4] محمد حسام الدين إسماعيل، الصورة و الجسد: دراسات نقدية في الإعلام المعاصر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص. 51.

[5] Derrida, J., Of Grammatology, Baltimore 1976.

[6]  Baltazar Gracian, The Pocket Oracle and the Art of Prudence, first published in 1647, translated by Jeremy Robins (London: Pinguin Books, 2011), p. 3.

[7]  عباس محمود العقاد و عثمان نويه و ثروت أباظة، حول مائدة المعرفة: تفسير و تقريب لكتب مأثورة و أفكار خالدة، الجزء 8 (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1963)، ص. 121.

[8] Ihab Hassan, ‘On the Problem of the Postmodern’, New Literary History, Vol. 20, No. 1, Critical Reconsiderations. (Autumn, 1988), pp. 21-22.

[9] انظر:  إبراهيم الحيدري، النقد بين الحداثة و ما بعد الحداثة (بيروت: دار الساقي، 2012).

[10] عبد الله عمر الخولي، “الاكتمال المنطقي لحقائق القانون في المذاهب القانونية الحديثة: دراسة تحليلية مقارنة”، مجلة لارك للفلسفة و اللسانيات و العلوم الاجتماعية، المجلد 1، العدد 44، السنة 2022، ص. 602.

[11] Jean-Francois Lyotard, The Postmodern Condition: A Report on Knowledge (Minncapolis: University of Minnesota Press, 1984), p. xxiii-xxv.

[12] إيتالو كالفينو، “مدن الخيال”، ترجمة محمود موعد، الآداب الأجنبية (سوريا)، العدد 40، صيف 1984، ص. 188.

[13] Derrida, Force de loi, (Paris: Galilée, 1994), p. 95.

[14] Derrida, Force de loi, (Paris: Galilée, 1994), p. 100.

[15] خلدون جميل النبواني، “فلسفة القانون عند جاك دريدا: مقاربة تفكيكية للمفاهيم التشريعية”، المجلة العربية للعلوم الإنسانية (جامعة الكويت)، العدد 143، المجلد 36، 2018، ص. 201.

[16] محكمة النقض (مصر)، 27/2/1933، ج 3 رقم 96 ص. 146.

[17] سفر يشوع، الإصحاح السادس.

[18]  ماكس برود، يوميات فرانتس كافكا، ترجمة خليل الشيخ (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة و التراث، 2009)، ص. 436.

[19]  سنن المهتدين في مقامات الدين للعلامة محمد بن يوسف المواق الغرناطي، تحقيق الأستاذ محمد بن سيدي محمد بن حمين، 2002 (سلا: منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث و التبادل الثقافي، 2002)، ص. 263-264.

[20] أندريه ناتاف، الـفكر الحر، ترجمة رندة بعث (دمشق: المؤسسة العربية للتحديث الفكري، 2005)، ص. 29.

[21] أحمد محمد غنيم، تطور الفكر القانوني: دراسة تاريخية في فلسفة القانون (صيدا بيروت: المكتبة العصرية، د. ت.)، ص. 8.

[22] عبد الله عمر الخولي، “أثر فلسفة ما بعد الحداثة في المدارس القانونية الواقعية في الفقه الغربي: دراسة بينية استقرائية”، مجلة كلية القانون الكويتية العالمية (الكويت)، إصدار دوري إضافي، العدد 3، السنة 9، العدد التسلسلي 35، يونيو 2021، ص. 442.

[23]   عبد الله عمر الخولي، “الاكتمال المنطقي لحقائق القانون في المذاهب القانونية الحديثة: دراسة تحليلية مقارنة”، مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية، المجلد 1، العدد 44، السنة 2022، ص. 577.

تأمــلات فــي العلاقــة بين الأفكــار القانونيّــة و السّياقــات الزمنيّــة

قياسي

حكــمٌ قضائــيٌّ تونســيٌّ ملفــت:

تأمــلات في العلاقــة بين الأفكــار القانونيّــة و السّياقــات الزمنيّــة

د. مشاعــل عبــد العزيــز الهاجــري

 1/3/2019

إيفاءَ بوعوده الانتخابية للنساء التونسيات، التي قدمها لهن في انتخابات الرئاسة في ديسمبر 2014، قام الرئيس التونسي الراحل القايد السبسي بإطلاق مبادرة عام 2018 تعلق بإصدار قانوناً للميراث يساوي بين حصص الرجل و المرة انطلاقاً من اعتبارات المساواة الدستورية من جهة، و تطورات الواقع الاقتصادي من جهة أخري. و لكن مع وفاة الرئيس السبسي و انتهاء العهدة النيابية للبرلمان التونسي في يوليو2019، صار الغموض يكتنف مصير هذه المبادرة التشريعية المتعلقة بإقرار المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، لا سيما و أن الرئيس السبسي هو من اقترحها منذ سنتين، ناهيك عن عن أن كتلة “حركة النهضة” الإسلامية القوية تعارض هذه المبادرة في داخل البرلمان.

و بعيداً عن جدل الاتفاق و الاختلاف في هذا الشأن، فإن الموضوع الذي أراه مهماً هنا هو هذا حكم قضائي صدر مؤخراً (أكتوبر 2017)، قررت فيه المحكمة التونسية هناك بإلزام امرأة مطلقة بدفع النفقة لأبنائها، تعويضا لهم عن الضرر الذي لحق بهم من جراء الطلاق ومساهمة منها في الإنفاق على أبنائها الذين هم في حضانة طليقها، في سابقة هي الأولى من نوعها في تونس وفي العالم العربي، فالمعتاد في ظل قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية – و تونس منها – هو جعل النفقة من واجبات الزوج و ليس الزوجة.

و في هذا الحكم، بررت المحكمة موقفها في أن الفصل 23 من مجلة (قانون) الأحوال الشخصية “يحتّم على المرأة أن تساهم في القيام بنفقة العائلة في حال توفر لها المال استنادا إلى الفقه الإسلامي والدستور التونسي والظرفية التاريخية لتنقيح مجلة الأحوال الشخصية لسنة 1993 وفقه القضاء”. و لا شك أن الأمر يعكس التطور التشريعي الذي شهده الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية خلال سنة 1993 و الذي صار في صيغته المنقحة ينص على أنه “على المرأة أن تساهم في الإنفاق على الأسرة” (و تفسر كلمة “إنفاق” هنا بمعاني الإلزام و الإجبار في حالة ما إذا كان للمرأة مال بطبيعة الحال). و في حيثيات الحكم، أسندت المحكمة موقفها هذا على الدستور التونسي الذي كرس مبدأ المساواة بين الجنسين.

و ما أجده مهماً في هذا الحكم هو توقيته أولاً، و حيثياته ثانياً. فأما من حيث توقيته، فقد صدر هذا الحكم في أكتوبر 2017، إلا أننا ينبغي أن نضع هذا الحكم في سياقه الزمني الصحيح، فنعرف – حتي نفهمه – أنه بمناسبة العيد الوطني التونسي أغسطس 2017 قام الرئيس السبسي باطلاق مبادرته المشار إليها للمساواة التامة بين المرأة و الرجل، فيما في نوفمبر 2018 أحال مجلس الوزراء التونسي مشروع قانون مجلة (قانون) الأحوال الشخصية، مع تضمينها الباب السابع مكرر تحت عنوان “أحكام تتعلق بالتساوي بالميراث”.

و بذلك، فإن هذا الحكم، من حيث الزمن، يتوسط إطلاق مبادرة المساواة من جهة، و تقديم مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد من جهة أخرى، بما يعني أن الاستغراب الذي يثور عندنا في المشرق العربي الآن حول هذا المشروع التونسي هو أمر منبت الصلة عن سياقه تماماً. فهذا الحكم لا يعدو أن يكون نتاجاً للمبادرة الرئاسية من جهة، و مقدمة لمشروع قانون الميراث من جهة أخري. أما النقطة الثانية المهمة في هذا الصدد فهي حيثات هذا الحكم، التي استندت إلي مذاهب دينية لا نعرفها و لا تدور في أوساطنا الفكرية، لأنها غُيّبَت لأسبابٍ أغلب الظن انها سياسية، كالمذهب المعتزلي في هذه الحالة.

و يأخذ الأمر أهمية من حيث أن الفقه الإسلامي حديقة خصبة غناء، و من كوننا قد حددنا أنفسنا في دولنا العربية بفقه مدارس دينية محددة بالذات، و هو أمر لا ينبغي معه أن يفوتنا أن هذه المدارس إنما هي سائدة لاعتبارات لا تعدو أن تكون متعلقة باعتبارات المكان و الزمان و الملائمة (و السياسة أيضا)، إلا أنها ليست – بأي شكل من الأشكال – التصور الفكري الوحيد للتعامل الديني مع التحديات المعاصرة، فهناك مدارس فقهية كثيرة يمكن اللجوء إليها عند البحث، كفقه الأئمة الأوزاعي و الشاطبي و ابن حزم مثلاً، و هو فقه ذكي و خصب، إلا أننا لا نعرفه في منطقتنا هذه من العالم.

و هذه المذاهب تأتي و تروح لأسباب تتعلق بالبيئة السياسة، فانتشار مذهب الإمام مالك في الأندلس مثلا يجد أصله في أن الأندلس كانت تطبق فقه الإمام الأوزاعي أصلا، و لكن في فترة حكم هشام بن عبدالرحمن قام زياد بن عبدالرحمن القرطبي بإدخال مذهب الأمام مالك في الأندلس، فإصبح المذهب المالكي هو المذهب المعتمد في مجال الحكم و القضاء، و تم من ثم هجر مذهب الأوزاعي (كان الأول يسمي هشام الرضا، فيما الثاني يسمي شيطون).

بعد كل ما تقدم، فإن الشاهد من هذا السرد هو الآتي: اقتطاع الأمور من سياقاتها الزمنية أولاً و الموضوعية ثانياً هو أمر كفيل بجعل الناظر يسقط في هوة الانفعال، بذلك، فإننا – سواء وافقنا علي مباحث إشكالية أو حرجة مثل مسألة الميراث هذه أو اختلفنا معها، و الخلاف أمر طبيعي – إلا أننا ينبغي دائماً أن نضع النقاش في سياقاته المذكورة.

أن تقصيرنا عن القيام بذلك هو الأولى بأن نعتبره أمراً غير طبيعي.

ربطٌ عبر-تخصصيٌّ بين قصائدنا، و قوانينهم

قياسي

ربطٌ عبر-تخصصيٌّ بين قصائدنا، و قوانينهم

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

‏26‏/04‏/2022

أثناء قراءتي حول الأهمية التجارية للدروب/الطرق الرومانية القديمة، ربطت بين ما أقرأه و بين بعض ما نحفظه من القصائد العربية، و خطر لي أنه جرى العمل على أن نتعامل مع الشعر و الأدب من حيث هما شعر و أدب فقط، فيما أنا لا أرى ممارسةً أدعي لإجداب العقول و تضييق الآفاق مثل هذه.

لذلك، فلا بأس من تجاوز هذا التناول المدرسي الساذج للأمور، التي يظهرها دائماً مسطحة و خالية من أبعاد الزمان و المكان و العاطفة معاً، للقيام بمحاولة فكرية عبر-تخصصية للربط بين الأدب و اللغة و التاريخ و القانون معاً.

هنا تجربة:

في معلقته الشهيرة، قال ملك قبيلة كندة، الشاعر الجاهلي اُمْرُؤ القَيْس (الذي عاش في القرن السادس الميلادي و امتد سلطانه على قبائل كثيرة من الجزيرة العربية و حتى سوريا)، قال:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

و أيقن انّا لاحقان بقيصرا

فقلت لا تبكي عينك فإنما

نحاول مُلكاً أو نموت فنُعذرا

و كلمة “الدرب” هي في حقيقتها اسم علم لطريق مرصوف يصل بين بلاد الشام و بلاد الروم،[1] سلكه الشاعر للقاء الإمبراطور البيزنطي، ليستنصر به على قتلة والده حُجر بن الحارث الكندي – و هم بني أسد و من خلفهم المنذر ملك الحيرة. و يأتي هذا الاستنصار بإمبراطور الروم من حيث أن هناك شواهدٌ تاريخيةٌ تشير إلى أن بعض بني كندة كانوا مسيحيين، و ربما كان اُمْرُؤ القَيْس كذلك، إذ في سِفْره الكبير المعنون “تاريخ الرسل و الملوك” يورد الطبرى أنه “كان لعمرو بن عدى ابن يقال له إمرؤ القيس البدء، هو أول من تنصّر من عمّال الفرس”،[2] كما تشير المصادر البيزنطية إلى شخصٍ قريبٍ للحارث بن عمرو اسمه “كايسوس” (قيس) كان ملكاً على قبيلة كندة.

أما صاحب اُمْرُؤ القَيْس الذي يذكره في هذه الأبيات فهو “عمرو بن قميئة”، الذي كان أحد رفاق أبيه و الذي اشتكى من مشقة الرحلة قائلاً لاُمْرُؤ القَيْس: “غَرَّرتَ بنا”، ليجيبه هذا الأخير بعدها بتلك الأبيات من قبيل شدّ الأزر و التشجيع على مواصلة المسير، لا سيما و أن الرومان (البيزنطيون) كانوا يستميلون سادة القبائل العربية، و منهم اُمْرُؤ القَيْس، فيدفعون لهم الهبات و يجزلون لهم الأعطيات الكبيرة مقابل حراستهم حدود الدولة البيزنطية و معاونتهم على محاربة القبائل العربية الأخرى التي تُغير عليها.

و تأخذ الأمور – إذا ما نظرنا إليها من منظورٍ متشابكٍ مثل هذا نُدخل فيه الشأن القانوني على الشأن الأدبي – منحىً أكثر خصوبة عندما نعرف أن الإمبراطور البيزنطي الذي كان يقصده اُمْرُؤ القَيْس لم يكن إلا الإمبراطور جوستنيان، واضع المدونة القانونية المعروفة “كوربس جوريس سيفيليس”، التي تمثل الأصل التاريخي للقانون المدني كما ندرسه اليوم (سيتعرف كثيرون على جوستنيان عندما أشير إلى أنه هو الحاكم الذي تظهر صورته محاطاً بحاشيته في لوحة الفسيفساء الشهيرة في كنيسة “أيا صوفيا” في اسطنبول). كما أن مصادر بيزنطية تشير إلى بناء حصن عسكرى فى جبل سيناء لحماية مناطق جنوب فلسطين من هجمات العرب فى عهد الإمبراطور جستنيان، كما أن المصادر التاريخية تذكر أن الحارث بن جبلة الغساني، مؤسس حكم الغساسنة في بلاد الشام – قد قام عام 529 بحملة تأديبية ضد القبائل التي لا تدين بالنصرانية، و ذلك فى عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان،[3] و هي الشواهد التي تدعم،  في مجملها، أطروحة ذهاب أمروؤ القيس للقاء جستنيان على خلفية من هذه الاعتداءات.[4]

و على أية حال، فقد تمت الوشاية باُمْرُؤ القَيْس لدى الإمبراطور جوستنيان، فأرسل الأخير لللأول جبةً مسمومة، ما أن ارتداها حتى تقرّح جسده بشدة – حتى سُمي بذي القروح – فمات (و إن كان يقال أن ذلك ما كان إلا بسبب إصابته بالجدري في الطريق). على أية حال، فقد دُفن اُمْرُؤ القَيْس حيث مات، و قبره الآن يقع في مدينة أنقرة بتركيا.

و هكذا، فقد تطلّب الأمر منظوراً مختلطاً من الشعر و اللغة و التاريخ و القانون معاً لكي ننتهي إلى كشف علاقة بين شاعر جاهلي من عمق الجزيرة العربية و بين إمبراطور بيزنطيّ هو واضع القواعد المدنية التي ندرسها في كليات الحقوق.

نحن لسنا منقطعى الصلة بعدانا من الأمم؛ من يبحثون سيعرفون أن العالم كان مُعولماً حقاً من قبل يرفع قرننا هذا شعار العولمة.


[1] “كانت هذه الطرق هي الوسائل التي ينفذ بها القانون الروماني، و الأعصاب التي تصبح بها رغبات رومة إرادة الدولة بأجمعها. وقد أحدثت هذه الطرق في العالم القديم انقلاباً تجارياً من نوع الانقلاب الذي أحدثه إنشاء الطرق الجديدة في القرن التاسع عشر. وحسبنا شاهداً على عظمة هذه الطرق أن طرق أوربا في العصور الوسطى و في العصور الحديثة ظلت إلى أيام استخدام البخار في النقل أقل شأناً من طرق الإمبراطورية الرومانية في عهد الأنطونيين. لقد كان في إيطاليا وحدها في ذلك الوقت 372 طريقاً رئيسياً، 12000 ميل من الطرق الكبرى المرصوفة، وفي الإمبراطورية بأجمعها 51.000 ميل من الطرق العامة المرصوفة، فضلاً عن شبكة أخرى من الطرق الثانوية. وكانت الطرق الكبرى تسير فوق جبال الألب إلى ليون، وبردو، وباريس، وريمس، وبولوني؛ وكانت طرق أخرى تجري إلى فينا، ومينز، وأجزبرج، وكولوني، وأوترخت، وليدن؛ وكان ثمة طريق يبدأ من أكويليا محازياً ساحل البحر الأدريادي، ويصل هذه المدينة عن طريق إجناشيا بسلانيك Thessalonica. وأقيمت جسور فخمة لتحل محل القوارب التي كانت تنقل الركاب والبضائع في عرض المجاري التي كانت تعطل سبل الاتصال في الزمن القديم. وكانت توضع عند كل ميل في الطرق القنصلية شواهد حجرية تبين المسافة بين كل شاهد والبلدة التي تليه. ولا تزال أربعة آلاف من هذه الشواهد باقية إلى يومنا هذا؛ ووضعت على مسافات معينة مقاعد يستريح عليها المسافرون المتعبون”. انظر: ول وايريل ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران (بيروت: دار الجيل، 1988)، ص. 3456.

[2] الطبرى، تاريخ الرسل و الملوك، ج 1، ص 27.

[3] سلامة النعيمات و محمد النصرات، “السراسنة (Saracens) و علاقتهم بالامبراطوريتين الرومانية و البيزنطية (القرنين الثالث و الرابع الميلاديين)، دراسات العلوم الإنسانية و الاجتماعية، المجلد 38، العدد 2، 2011، ص. 644.

[4] سلامة النعيمات و محمد النصرات، “السراسنة (Saracens) و علاقتهم بالامبراطوريتين الرومانية و البيزنطية (القرنين الثالث و الرابع الميلاديين)، دراسات العلوم الإنسانية و الاجتماعية، المجلد 38، العدد 2، 2011، ص. 634.

أنــا و سيدتــي قطّــة الشــوارع

قياسي

أنــا و سيدتــي  قطّــة الشــوارع

د. مشاعل عبد العزيز اسحق الهاجري

‏26‏/04‏/2022

لا أثقل على النفس من وطأة المسئولية التي تلقيها على عاتقك قطة الشوارع المرقطة العرجاء التي قَرّرت – هكذا، فجأة – أن تثق بك وحدك دوناً عن أهل بيتك، بعد سنوات طويلة من النظرات الجانبية المستريبة و جُمَل الشك الجسدية البليغة و الأوضاع الأولمبية المتربصة استعداداً للهرب في الاتجاه الآخر في حال ما إذا بدرت منك أية حركة مجنونة تؤكد قلقها العتيق  – الموروث جينياً – تجاهك، بل تجاه جنسك البشري بأكمله.

هذه الثقة المكتَسبة الجديدة في شخصي التعيس هي ثقة من صنف ثقيل قيمياً؛ لا تشبه أي شيء أعرفه. لقد صارت تكلفني أثماناً يومية باهظة، ما زلت أدفعها صاغرةً على شكل حرصٍ مرضيٍ مني بأن لا أظهر أية بادرة من بوادر التهور، من دون أن أفهم ما الذي يضطرني، حقيقةً، إلى ذلك.

ما أدفعه من أثمان لهذه الثقة غير المصنّفة صار يأخذ أشكالاً عدة:

  • إضاعةٌ للوقت (خطوات باليرينية بطيئة و محسوبة عطلتني عن الكثير من مشاويري)؛
  • إرباكٌ للعلاقات الأسرية (ما عدت أحصي النظرات الشزرة الصامتة التي وجّهت سهاماً منها لأطفالي الصغار كلما استشعرت منهم بادرة خيانة لوصاياي العشر بضرورة التأني و الاحتشام في حضرة القطة)؛
  • بل و هدرٌ لليترات الوقود أيضاً (يا لغابة الشوارع المتداخلة المجاورة التي اكتشفتها في الحي لأول مرة، فقط حتى لا أضايق سيدتي هذه حين خروجي من المنزل).

من هذه التي – من فرط تأثيرها الأدبي العميق عليّ و من عمق ولائي القسري لها – بت أشعر جدياً بأنها، في حياة سابقة، وفق قوانين تناسخٍ ما، كانت زنوبيا ملكة تدمر؟

منطلقاتٌ أوليةٌ للتعاطي مع الغربيين

قياسي

منطلقاتٌ أولية للتعاطي مع الغربيين

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

26 إبريل 2022

--

الغربيون أناس مثلنا، بشر؛ و البشر يختلفون لا شك. و مع ذلك، فهناك منطلقات أوليّة للتعاطي معهم في الحياة اليومية. لعل من أبرزها- بشكلٍ عام – ما يلي:

  1. ابتسم.
  2. كن ايجابيا.
  3. ثِق بنفسك.
  4. لا تنفعل. لا تصرخ.
  5. اغلق الهاتف النقال في الاجتماعات أو أثناء دعوات الغداء.
  6. عندما تسرد حادثة ما، لا تتحدث عن انطباعات. ركز على الوقائع.
  7. مناطق الأمان للنقاش: الرياضة، السفر، الأصدقاء المشتركين، محلات الخصومات، السيارات، الأطفال، العمل، الجو، الصيد.
  8. احترم توجهات محدثك و انتماءاته.
  9. لا تتسول التعاطف، فأنت غالباً لن تحصل عليه. قل كلمتك و امض.
  10. ركز على الجانب الانساني.
  11. لا تناقش الأديان ما لم يبد صاحبك اهتماما ً بالموضوع.
  12. لا تنتقد الأوضاع العامة كثيرا ً.
  13. لا تفترض سوء النية فهم في أغلبهم عقلانيون لا يخلطون بين العملي و الشخصي.
  14. لا تطل في الحديث.
  15. احترم المواعيد و الاتفاقات.
  16. كن عادلا. في كل شيء.
  17. بعض الناس لا يشترط أن تحبهم أو أن يحبوك، فلا بأس أن تكتفي بالاحترام.
  18. اعرف حقوقك، تحرك في إطارها، لا تطلب ما يجاوزها، و لا تتنازل عنها.
  19. ضع خطة عمل بسيطة او تصور عملي لكل موضوع تناقشه. لا تلق بمشكلاتك على الآخرين و لا تتوقع منهم أن يحلوها لك.
  20. اقبل بالحلول الوسط كلما كانت معقولة، لا تتشنج و لا تتعسف. البراغماتية العملية منهج أساسي في الغرب.
  21. لا تبالغ في ارتداء الملابس و المجوهرات (لا ألوان فاقعة، لا مجوهرات كبيرة لامعة).
  22. لا تبالغ في الهدايا. الهدايا الصغيرة أوقع أثرا ً. و ما كان منها ذو دلالة إنسانية هو الأفضل (تمرٌ من حديقة منزلك، إيشارب من زوجتك لزوجة صديقك، زيت زيتون من نوعٍ طيّب، و ما شابه. هذا يكفي).

كيف تقرأ الاعتذار المزيّف كقالَب

قياسي

كيف تقرأ الاعتذار المزيّف كقالَب:

عن أهمية التفرقة بين الأخطاء الأولى، الأخطاء المتنوّعة، و الأخطاء المتكرّرة

(مع تشريحٍ لاعتذارٍ مكرور، ممجوج، عديم جدوى و خالٍ من القيمة)

د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

‏24 إبريل، 2022


وَ زَعَمتِ أَنَّكِ تضمُرينَ لَنا وُدّاً، فَهَلّا يَنفَعُ الوُدُّ؟

– دوقلة المنبجي. الأبيات من قصيدته الوحيدة: يتيمة الدهر (القرن الثالث الهجري).

أعقَلُ النَّاس أعذرهم للنَّاس. لذلك، أنا أغفر كل شيء – كل شيء – إلا قلّة الأخلاق، إن تكررّت ثلاثاً.

هذه لا أغفرها، أبداً، لا انطلاقاً من الحسابات الاجتماعية التقليدية المبسّطة و المضلّلة (الطيبة مقابل القسوة و التسامح مقابل المؤاخذة)، بل لمنظورٍ موضوعيٍ بحت: فقلّة الأخلاق عادةً ما تكون كاشفةً عن شيءٍ خربٍ قديمٍ في البُنية القيميّة، لا مُستحدثٍ فيها. و هي تقترن عندي دائماً بإغلاق الأبواب، رمي الأقفال وراء الظّهر، و المُضيّ قدماً مع عدم الالتفات إلى الخلف مطلقاً.

هذا، لأن كثرة الأخطاء تجعل من صورتك الذهنية في عقل من تخطيء بحقه مُبقّعة بنقاطٍ سوداء لونها لا يعود الى سواد الحبر، بل الى سواد أخطائك. تعدّد الأخطاء منك سيُحيلك في عقله – شيئاً فشيئاً – إلى محض شبحٍ أسود.

و لكن الأمر يسوء و يتعقّد مع الأخطاء المتكررة بذاتها رغم التنبيهات المتعدّدة. فبخلاف الأخطاء الأولى أو الأخطاء المتنوّعة، فإن الأخطاء المتكرّرة تقترن بالوعي بالضّرورة، لأنه قد سبق التنبيه إليها، مِراراً. من هنا، فإنّ تكرارها – مع إدراك كونها خطأ – لا يعدو أن يكون مؤشرٍ على واحدٍ من احتمالين: فإما الكسل المتمثل بعدم تحمّل عبء إلزامٌ  الذات بالسلوك القويم (و هذا منشأه الأنانية و تفضيل الركون للراحة)، و إما الإصرار على الخطأ (و هذا لا يمكن إلا أن يُعزى إلى عدم احترامٍ للشخص المعنيّ أو عدم اعتباره أولويّة)، و الإثنين إرادييّن (إلى درجةٍ منفّرة)، بما يجعل أي اعتذارٍ ناتجٌ عنهما إعتذارٌ مُزيّف، خالً من الصدق، و إن حَسُنَ الأسلوب.

هناك مثلٌ كويتي يعجبني، يقول: “اللّي ما يعدّك راسمال، لا تعدّه فايدة”. ليس فقط أنني لا أعدّه فايدة؛ أنا – فوق ذلك – أعتبر معرفة أشخاصٍ من هذا القبيل خسارةً لحقتني، أصلاً؛ ديونٌ معدومةٌ تُشطب من ميزانيّة الحساب الختامي الإنساني شطباً، لأنها لا تساوي إلا صفراً.

لكلّ ما تقدّم، أنا أحْمِل قلّة الذوق المتكررة على مِحْمَل الجِدّ تمامَاً، لأنها مرحلةٌ تسمح بالتنبيه و التدارك. أما ما لا يتم تداركه في مرحلة قلّة الذوق هذه فهو يتراكم لينتهي – كنتيجة، و حتماً – إلى وقاحةٍ تقود إلى قلة الأخلاق، تماماً مثلما يقود ممرٌ قذرٌ إلى هاويةٍ سحيقة، و هو ما ينتهي عادةً إلى السطر الأول أعلاه؛ نقطة اللاعودة.

لا تلتقط من يقفزون إلى الهاوية واعين. هذا هو معنى الخيار و هذه هي تبعات الحرية: المسئولية.

إن قفزوا، هِزّ رأسك أسفاً، و ارجُ لهم – مخلصاً – السّلامة و الخير، ثم أدِر ظهرك، و امضِ، فلا جدوى.

****

هنا محاولة ٌ تشريحيةٌ لقالبٍ اعتذاريّ مكرّر؛ كَذِبَهُ باردٌ رغم حرارة أسلوبًهُ. أُسميها: “كيف تقرأ الاعتذار المزيّف كقالب”.

عندما أترجمها إلى الإنجليزية، سوف أعنونها: (How to Read a Fake Apology as a Paradigm).

كيف يتعلم الشباب القانون … بفعالية؟

قياسي

كلمة الدكتورة /  مشاعـل عبد العزيـز الهاجـري

المؤتمر الختامي لمشروع

“التعلم بالملازمة لطالبات كليات الحقوق”

(الشبكة العربية للنساء القانونيات و  نقابة القضاة والمحامين الأمريكيين)

ابريل 14-6-2010

د. مشاعـل عبد العزيـز الهاجـري

قسـم القانـون الخـاص – كليـة الحقـوق

جامعـة الكويـت

بسم الله الرحمن الرحيم

السيدات و السادة الزملاء،

أضع في يدي الآن خاتما ً فضيا ً قديما ً فيه حجر كريم يحمل نقشا ً عليه كتابة ٌ غير واضحة. هذا الخاتم حصلت عليه في نوفمبر الماضي، عندما سمحت لي الحظوظ الطيبة أن أزور مدينة البتراء العظيمة، لقد كان هدية من بائع ٍنبطي ٍ كريم، أهداني إياه عندما علم أنني من الكويت.

حذرني بعض الأصدقاء الأردنيين وقتها من ارتداء هذا الخاتم المنقوش، “فلربما كان يحمل طلسما ً سحريا ً”، على حد تعبيرهم. أظنه كان كذلك. الخاتم، على أغلب الظن، فيه شئ من السحر، فمنذ عودتي إلى الكويت و أنا أحمل الأردن، و أهله في قلبي و في عقلي.

ها أنذا أعود إلى الأردن مرة أخرى، للمشاركة في برنامج التعلم بالملازمة. هذا البرنامج هو مبادرة ٌ مثيرة ٌ  للإهتمام فعلاً في سبيل دعم تطوير خبرات النساء المقبلات على العمل القانوني.

و لا يفاجئني أن برنامجكم هذا قد ولد على يد الشبكة القانونية للنساء العربيات، فقد عودتنا هذه الشبكة الفذة على المبادرات المؤسسية و الديناميكية، التي لا تكتفي بالإنطلاقات الحماسية المعتادة، بل تتميز حقا ً بالحرص على اعتبارات التخطيطٍ و التمويلٍ و الإدارة، و عداها من عناصر الإستمرار و الاستدامة.

أسعد أن أتواجد بينكم اليوم تحت مسميات ٍ عديدة. أتواجد بينكم كمواطنة ٍ عربية ٍ أولا ً، وكزميلة ٍ ثانياً، ثم كأكاديمية ٍ ثالثا ً.

و بهذه الصفات الثلاث، إسمحوا لي أن أخاطبكم بصيغة مباشرة تخالطها نبرة ٌ مخلصة. لقد علمتني المحاضرات الأكاديمية أن ما يبقى في ذاكرة المستمع على المدى الطويل هو ما يصل إلى ذهنه عبر وسائط لا أعرف إسما ً لها، كل ما أعرفه أنها تدور في مجملها حول الإهتمام الصادق بالموضوع و بالمستمع و الشغف بهما معاً. الكلمات و الصوت و مكبراته لا تكفي.

*****

أنا من الكويت.

و الكويت، منذ بداياتها، قامت على آيديولوجيا من طبيعةٍ خاصة، هي آيديولوجيا المغامرة.

أجدادنا، نحن الكويتيون، كانوا بحارة ً و تجارا ً و بدوا ً و غواصين. الجميع جمعتهم المغامرة:

و لكن المغامرة في الكويت ليست حكراً على الرجال فقط.

تفخر إحدى قريبات والدتي بكونها ضمن أول بعثةٍ من الطالبات الكويتيات اللاتي يبتعثن للدراسة الجامعية في الخارج، كان ذلك عام 1956 عندما انطلقت أول مجموعةٍ من الفتيات للدراسة في مصر. لم يكن الأمر سهلا ً آنذاك، فرغم تشجيع والديها، إلا أن هذه الفتاة قد لاقت معارضة ً شديدة ً من خالها، حتى أنه تبعها ببندقية ٍ من البيت و حتى المطار في محاولة ٍ لمنعها من السفر. و لكنها، رغم التهديدات، تمكنت من السفر بطريقةٍ مؤثرة. لقد رافقتها أمها التي كانت في وداعها مع والدها، و خبأتها تحت عباءتها السوداء إلى أن أودعتها الطائرة المغادرة إلى القاهرة.

لقد درست تلك الفتاة و تخرجت و عملت في الوظيفة العامة حتى أصبحت أول سيدة ٍ تتقلد منصب وكيل وزارة على مستوي دول الخليج العربي ككل. هذه القصة أصبحت من كلاسيكيات الأدبيات التعليمية الكويتية، و هي مصدر وحي ٍ و إلهام ٍ لأجيالٍ عديدةٍ من الكويتيات، و أنا منهن.

ما بين رحلة قريبتي تلك إلى القاهرة و رحلتي هذه إلى عمان، مرت 54 عاما ً قطعت خلالها المرأة في الكويت اشواطا ً طويلة تجعل من تلك الحادثة مجرد فصل ٍ تاريخي.

أما بالنسبة لي، فقد كنت أتمنى ان أظهر بمظهر الرواد الذي ظهرت به قريبتي التي حدثتكم عنها. و لكن لسوء الحظ – أو لحسنه، ربما – فقد حرمني زملائي الأساتذة في كلية الحقوق في جامعة الكويت متعة الظهور أمامكم بمظهر المحارب أو المضطهد، فهم منذ تشرفي بالعمل معهم غمروني بالدعم و الثقة الكبيرين، حتى أنهم فور التحاقي بالعمل في الكلية منحوني شرف تدريس أهم مادة ٍ تدرس في كليات الحقوق، و هي مادة الإلتزامات المدنية.

و مع ذلك، فإن الميل الغريزي للمغامرة كان دائما ً معي.

بدأت مغامرتي عندما تركت وظيفتي المريحة كمحامي دولة، و ذلك حتى ألتحق ببعثات جامعة الكويت للدراسة في إنجلترا، لأعود بعد التخرج فأصبح أول إمرأة تعين للتدريس في قسم القانون الخاص في كلية الحقوق. فهذا القسم، كما تعلمون أنتم كقانونيين، يعرف بطبيعته الأكاديمية القاسية و المتطلبة، و لذلك، لم يسبق أن عملت به أية سيدة ٍ منذ أن قامت جامعة الكويت في عام 1967، أي منذ ما يربو على 43 عاماً.

و رغم أن الفيلسوف الألماني نيتشه يقول أن “الأكاديمي لا يعرف كلمة أنا”، فإنكم، للأسف الشديد، سوف تسمعون هذه الكلمة تتكرر أكثر من مرة خلال محاضرتي هذه. فقد غمرني القائمون على الشبكة القانونية للنساء العربيات بلطفهم، فطلبوا مني أن أتحدث معكم عن تجربتي الخاصة في مجال القانون، و التي لا أظنها سوى بسيطة ٍ و محدودةٍ على أية حال، إذا ما قورنت بتجارب الأساتذة الحاضرين.

تتميز خصوصية تجربتي، كما قيل لي، بأنه خلال فترات عملي في كلية الحقوق، حالفني التوفيق بأن حصلت على عدة جوائز هامة، خلال سنواتٍ متتالية.

فقد  حصل مشروع لي على التقدير الشرفي الاستثنائي في مسابقة اليونسكو لاستخدام تكنولوجيا المعلومات و الاتصال في مجال التعليم، و ذلك عن أول موقع ٍ على مستوى الجامعات العربية خاص بتدريس مقررات القانون المدني على شبكة الإنترنت. كان ذلك عام 2007.

كما حصلت على جائزة جامعة الكويت لأفضل باحث من أعضاء هيئة التدريس الشباب عن جميع الكليات الأدبية و الإنسانية للعام الأكاديمي 2007 / 2008، و هي أعلى جائزة تمنحها جامعة للكويت لأعضاء هيئة التدريس الشباب الذين يظهرون أداءً متميزاً في النشاط البحثي في مجال تخصصاتهم العلمية.

و منذ بضعة أيام، أبلغت بحصولي على جائزة جامعة الكويت للتدريس المتميز عن الكليات الأدبية و الإنسانية للعام الاكاديمي 2008 / 2009.

و أنا أكتب هذه المحاضرة، حاولت استخلاص لب هذه التجارب، مستعرضة ً الملامح الأساسية لها. و بعد تفكير امتد لبضعة ايام، أكتشفت أن هذه الملامح ينتظمها خيط ٌ واحد ٌ هو الميل للتنوع و الإختلاف. كما اكتشفت أن هذا الميل هو بالضبط ما جعل ذكرى الأردن باقية ً معي رغم الشهور الطويلة، أي إحساسي بأن هذا البلد يقوم على بنية ٍ أساسية ٍ صلبةٍ من التنوع الحضاري و الديني و الثقافي. أنا أعشق التنوع.

خلال زيارتي السابقة للأردن مع أصدقائي، كان مما لفت نظري بحق أن النقلات بين الأزمان و الحقب و العهود الملكية في بلادكم الجميلة هذه، كانت تتاح لنا أفقيا ً من خلال قطعنا لمسافة أمتار ٍ قليلةٍ بين المعلم و الآخر، كما كانت هذه النقلات تتم عموديا ً من خلال الحفريات الآركيولوجية المدهشة التي تسنى لنا الوقوف عليها، و التي تبين لى معها أنكم، أيها السيدات و السادة، تعيشون على منصة ٍ للتاريخ بالمعنى الحرفي، تتكون من طبقة ٍ إثر طبقة من الحضارات المتتالية: رومانية و نبطية و عربية و مسيحية و إسلامية. متوالية ٌ حضارية ٌ بالمعنى الحقيقي، و ليس المجازي.

لذلك، فكل ما سوف أقوم به هو ان  إفكر معكم يصوت ٍ عالٍ، فأشارككم منظوري البيداغوجي[1] الشخصي بصدد تعليم القانون و تعلمه. و هو عرضٌ يتناول الفلسفات التي أنطلق منها كركائز ٍ أساسيةٍ لعملي الأكاديمي في شقيه البحثي و التدريسي، مع عرض لبعض التطبيقات العملية ذات الإرتباط.

*****

من اهم الأفكار التي أنطلق منها و أود مناقشتها معكم هي فكرة اعتماد القانون المقارن في كل من البحث و التدريس.

تتسم الدراسة في كليات الحقوق العربية بشئ من الجبرية و انعدام الخيار، ففي حين يملك زملاؤنا في الكليات الأخرى التعبير عن الميول الشخصية من خلال اختيار التخصص العام و التخصص المساند، إلا اننا كقانونيين لا نحظى بهذا الميزة، فنحصر ضمن نطاق دراسة منظوماتنا القانونية الوطنية دون عداها، فلا نتعرف على نظم قانونية أخرى إلا بشكل بسيط و سطحي.

يلاحظ أن الكثير من الباحثين تستمر معهم عقلية الجبر هذه، فيستمرون في تكريس جهودهم لدراسة نظمهم الوطنية وحدها، دون أن يحركهم الفضول لاستشراف آفاق أخرى من النظم القانونية المقارنة. رغم أنهم يفوتهم بذلك الشئ الكثير من العلم و المتعة معا ً.

و لذلك، فقد حرصت دائما ً على الإنفلات من قيد القانون الوطني، سواء في أبحاثي أو في محاضراتي، من خلال اتباع منهج الدراسة المقارنة. و القانون المقارن ليس “قانوناً” بالمعنى الإصطلاحي للكلمة، و انما هو مجالٌ دراسيٌ مكرسٌ للمقارنة المنظمة بين نظامين قانونيين أو أكثر، أو بين عناصر معينة من تلك النظم، من خلال تحليل مجموعة من الأفكار المشتركة و المختلفة بينها. [2]

و تكمن مهمة الباحث في القانون المقارن في التعرف على العناصر التي تؤدي وظائف مشابهة في النظم القانونية محل المقارنة، مثل فكرتي التأمين في القانون الوضعي و التكافل في الشريعة الإسلامية، أو فكرتي التضامن في القانون المدني solidarité  و المساهمة في القانون الانجليزي  contribution، أو فكرتي نظام الملكية على الشيوع في القانون الفرنسي و نظام الـ Trust في القانون الانجليزي.

و بعد ذلك، يتبقي للباحث أن يعزل تلك العناصر عن العناصر الأخرى المشابهة لها أو المتداخلة معها في النظم القانونية محل المقارنة، مثل التمييز بين ضمان العيوب الخفية في عقد البيع و ضمان العيوب الخفية في عقد المقاولة، أو الفصل بين فكرة تنفيذ العقود وفقا ً لمقتضيات حسن النية و شرف التعامل[3] و فكرة implied term أو الشروط الضمنية في العقود في القانون الانجليزي.

و بالإضافة إلى ما يحققه التعاطي مع القانون المقارن من تحول ٍ عن منطقة النظم الوطنية المطروقة و المعتادة، إضافة ً إلى حقن الأبحاث و المحاضرات بجرعات ٍ مختلفة ٍ من التجديد و التغيير، فإن دواعي الحاجة إلى القانـون المقـارن تقوم على أهميته بالنسبة للوقوف على الثغرات القانونية في النظام القانوني الوطني، فهم القواعد القانونية القائمة، تقييم أداء المؤسسات القانونية الوطنية، و توحيد القواعد القانونية على المستوى الدولي.

هذا، بالإضافة إلى ان الدراسة المقارنة للقانون تقدم حلولا ً منطقية ً للإصلاحات القانونية و تطوير التشريعات الداخلية، مما يغني المشرع الوطني عن إعادة اختراع العجلة و إضاعة الوقت و الجهد في الخروج بحلول ٍ جديدةٍ لمشكلات ٍ قديمة. كما أن تعرف اتجاهات القضاء في الدول الأخرى يعتبر قيمة ً مضافة ً لكل من المحاكم الوطنية من جهة، و للبحث العلمي الأكاديمي من جهة ٍ أخرى.

لقد لاحظت، بحق، أنني لا يمكنني أن أدعي فهم موقف القانون الكويتي من أية قضيةٍ كانت ما لم أقيمه من منظورٍ مقارن ٍ بموقف قانون ٍ أو قوانين مقارنةٍ أخرى.

و يلاحظ أن الكويت ليست حالة ً فريدة ً بذلك، فأغلب النظم القانونية في دول الشرق الأوسط – و الأردن منها – هي عبارة ٌ عن مزيج ٍ مركب ٍ من التقاليد القانونية الأوروبية و الإسلامية و المحلية.

و لما كان اتباع  أسلوب الدراسة المقارنة قد استقر باعتباره أهم الأساليب المتبعة في دراسة القانون في الجامعات الكبرى باعتباره يمثل منظورا ً عالميا ً للتطبيقات القانونية في النظم التشريعية حول العالم، فقد حرصت في محاضراتي دائما ً على عرض المشكلة موضوع الدراسة و مناقشتها من المنظور الداخلي الوطني أولا ً، ثم المنظور الخارجي ثانيا ً، و الذي عادةً ما يتمثل في تعرف موقف بعض النظم القانونية ذات الأثر البارز أو التجربة الطويلة في المشكلة موضوع البحث. و هذه الطريقة المنهجية تعرف الدارسين بالقانون المقارن من خلال أدوات ٍ متعددة ٍ كالكتابات الفقهية الأجنبية وأحكام المحاكم و الأخبار الصحفية، و عداها، مما يعطى المواد نكهة ً مميزة ً.

و حتى الآن، أظهر هذا الأسلوب أنه أكثر التجارب نجاحا ً في محاضراتي و من ثم في أبحاثي، و هو ما أدي إلى الحصول على جائزة البحث العلمي التي أشرت إليها منذ قليل.

و ربما كان السبب يعزى الى أن المنظور المقارن يشكل نوعا ً مما أسميه بـ “السياحة القانونية” من حيث كونه يسمح بتجاوز ضيق المنظور الوطني إلى رحابة المنظور عبر الدولي. كما أن تجريد المشكلة و دراستها من حيث موقف عدة نظم قانونية منها يدعم التفكير الانتقادي و ملكات العرض و التحليل و التقييم و المقارنة و التوفيق و الإستنباط.

و لكن مع التعاطي مع القوانين المقارنة، أنبه دائما ًإلى أهمية تعلم اللغات الأجنبية. إذ عادة ما تشكل الترجمة مصدراً خصباً للاضطراب اللغوي الخطير في البحث القانوني المقارن. و إذا كان القول الشهير يذهب الى أن “الترجمة المبسطة هي وصفة للكارثة”،[4] كما هو معروف، فان الترجمة القانونية بدورها مليئة “بالأفخاخ” اللغوية.

و لذلك، أشجع القادرين على القراءة بلغات أجنبية أن يستغلوا علمهم هذا كأداة لتطوير معارفهم و شحذها، إذ يبدو لي أن الكثير منا قد ركن إلى رفاهيات الترجمة اختصارا ً للوقت و الجهد. و لا أظنني بحاجة إلى التذكير بخطورة هذا الموقف السلبي الذي يتبنى العجز رغم التمكن، فالترجمة – كما يقال – كثيرا ً ما تتضمن قدراً من الخيانة بطبيعتها، و إن حسنت نية المترجم (translation is an act of betrayal).

و قبل أن أتحول من مقام هذا الحديث، أشير إلى نقطةٍ جديرةٍ بالملاحظة لا توردها المراجع القانونية، و هي أن الدراسة المقارنة للقانون ليست أمرا ً طارئا ً على الفكر العربي و الإسلامي، ففي الماضي البعيد، في القرن الحادي عشر الميلادي تحديدا ً، أثر عن محمد بن أحمد الجهاني، الوزير في بلاط بخارى في عهد الدولة السامانية، أنه لما نال الوزارة كتب رسائل إلى شتي الأقطار يطلب دساتيرها و قواعد الحكم فيها، لينتخب أفضلها.[5]

*****

أما الركيزة الأخرى لمنظوري البحثي و التدريسي التي أود مناقشتها معكم هي فكرة الدراسات البينية بين القانون و عدها من حقول معرفية.

و في الحقيقة، تبدو الحقول المعرفية في صورها التي تدرس بها حاليا ً في الجامعات العربية أشبه بقلاع ٍ منيعة، معزولةٍ عما سواها. و تبدو الصورة أكثر وضوحا ً في مجال القانون. و لذلك، فأنا أدعو دائماً، باستمرار و بإلحاح، إلى شيء من التغيير على مستوى المواقف الشخصية والترتيبات الإدارية لإفساح المجال للدراسات البينية باعتبارها جسور ربط بين جميع القلاع المذكورة، و منها قلعة القانون.

إن القانون، كحقل معرفي مستقل، يتميز بخصوصية واضحة  تستعصي أحياناً على التصنيف، إذ من الملحوظ  أن الأكاديميين القانونيين – بخلاف زملائهم الباحثين في الحقول المعرفية الأخرى – ليسوا “منتجين” للمعرفة، بمعنى أنهم لا يحضرون تجاربا ً أو يستنبطون معارفاً تأتي بنتائج نوعية أو كمية لم تكن معروفة سلفاً، و إنما يدرسون المعطيات الماثلة أمام صانعي القرار، و يحللونها، ثم يضعون هذه المعلومات أمام القضاة في المحاكم، و المشرعين في المجالس النيابية، أو الطلبة في قاعات الدرس. و هو أمر تبرز معه ضرورة الاستناد إلى الحقول المعرفية الأخرى ذات العلاقة، لفهم هذه المعطيات على الوجه الأمثل، لا سيما مخرجات العلوم الإجتماعية كالاقتصاد و التاريخ و علم الإجتماع و العلوم السياسية.

إن هذا الوضع “الانعزالي” للقانون لم يعد مفيدا ً للقانونيين من طلبة و باحثين. فكل من مناهج و موضوعات الحقول المعرفية الأخرى يمكن أن تزود القانونيين بمهارات ذات فائدة مباشرة في حل مشكلات القانونية.

و دعونا نتذكر أن الدراسة القانونية الصرفة لا تحضر الطلبة للتعامل مع العالم الخارجي خارج أسوار الكلية، فالمشكلات القانونية – كما يعرضها الواقع المعاش – لا ترد عادة بصور منطقية، فهي لا تأتي واضحة ومعنونة بعنوان العقد أو الإفلاس مثلاً، وإنما تعرض نفسها عادة ً على شكل غابة ٍ متشابكة من المشكلات و التعقيدات، وتبقى مهمة القانوني أن يرد هذه المشكلات إلى أصولها الأولية من خلال ما يعرف بعملية التكييف القانوني، فيعالج ما هو ذو طبيعة قانونية من هذه المشكلات و لا ينشغل بعداها.

و بعد، فتجدر الاشارة الى أن هنالك متعة ٌحقيقة ٌ في التحرر من ضيق و رتابة العرض القانوني الجامد إلى سعة و ديناميكية المجالات ذات الارتباط التاريخي الأرحب، كالاقتصاد مثلا ً، و هي ميزة يستشعرها كل من الدارسين و أستاذهم معا ً. فتلمس الارتباطات البينية بين القانون و عداه من الحقول المعرفية قد قادني أنا و طلبتي معا ً الى ما أسميه “مغامرات أكاديمية” حقيقية، ما كانت لتتحقق لو أنني حصرت دراسة المادة في حدود دفتي الكتاب المقرر. دعوني أعطيكم بعض الأمثلة:

لقد درسنا القانون و الفن من خلال العرف كمصدر من مصادر القانون، فحللنا الأعراف القانونية كما تعكسها أعمال فنية مختارة لرسام الثورة االفرنسية Jacques-Louis David . راجع لوحة تتويج نابليون بونابرت كما رسمها هذا الرسام و انتبه كيف ان هذه اللوحة مليئة بالإشارات السياسية التي تحولت إلى أعراف قانونية مع مرور الزمن.

و كذلك تأملنا علاقة القانون بالفن من خلال قواعد تسلم غير المستحق و الإثراء بلا سبب. حيث تطرقنا إلى دور الحزب النازي الألماني في نهب اللوحات الفنية الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، و مدى التزام الحائزين الحاليين لهذه اللوحات بردها إلى ورثة ملاكها الأصليين.

و من خلال القانون و الفن استمتعنا بدراسة المسئولية التقصيرية لحارس الأشياء الخطرة، و ذلك من خلال التمثيل لها بالحبكات الدرامية في الأعمال الكارتونية لكل من أعمال الرسام أيرجيه الذي أظهر شخصية تان تان، و الرسام جوسيني الذي أظهر شخصية أستريكس.

و تناولنا القانون و الاقتصاد من خلال فكرتي الإيجاب و القبول في العلاقات العقدية من خلال بعض الإعلانات التجارية لشركات المشروبات الغازية، و كذلك من خلال نظرية الظروف الطارئة على العقود، من خلال المنظور المتمثل في أثر التضخم و انخفاض القيمة الشرائية للعملة الارجنتينية الـ Peso الذي وقع عام تسعسنيات القرن الماضي.

كما درسنا النظرية السياسية و علاقتها بقانون العمل من خلال إصلاحات المستشار البروسي أوتو فون بسمارك في مجال تأمين الحوادث الصناعية، التي تمت في القرن التاسع عشر.

و عرجنا على القانون و التجارة من خلال حقوق الملكية الفكرية، حيث تطرقنا إلى الإشكالات التي صاحبت ظهور لعبة Monopoly المعروفة.

و من خلال دراسة العلاقة بين القانون و تاريخ الحضارة الأوروبية أمكننا بسهولة ان نتناول موضوع ازدراع القانون الروماني في دول القانون المدني، و هو ما يعرف بـ legal transplant.

كما ربطنا بين القانون و الفلسفة من خلال تحليل الدور غير المعروف للفيلسوف و الدبلوماسي العربي الفذ شارل مالك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

إن هذه “الرحلات” المعرفية الى مناطق أخرى متاخمة لمنطقة القانون برهنت لي بشكل واضح عن إمكانية اثارة اهتمام الدارسين بالموضوع القانوني الضيق من خلال ربطه بالإطار الواسع له.

*****

أما الركيزة الثالثة التي استند إليها في عملي الأكاديمي هو الإيمان بالدور الواعد لنظم المعلوماتية في العملية الأكاديمية، إذ تعتبر ثقافة تكنولوجيا المعلومات ثقافة ً جد متأخرة في منطقتنا. وهذه الخلاصة تكاد تنطبق على جميع الجامعات في العالم العربي. فالقليل جداً من مدرسي الجامعات العربية، إن وجدوا، يضعون المواد العلمية لمقرراتهم الدراسية على شبكة الانترنت بحيث تكون متاحة لطلبتهم، ولعداهم من المهتمين. و تأخذ المؤشرات الإحصائية منحنى ً أكثر تدنيا ً مع مدرسي كليات الحقوق.

و لذلك، فقد كانت لي تجربة في توظيف نظم المعلوماتية كطرق مساندة في تدريس العلوم القانونية، و هي تجربة أظنها ذات أهمية في دعم التحول الممنهج الى نظم المعلوماتية من خلال إعداد موقع لمقرراتي الدراسية على شبكة الانترنت، بالتعاون مع أحد الزملاء من مهندسي الكمبيوتر. و يتضمن هذا الموقع العديد من الوسائط التعليمية التي أدرسها في محاضراتي الجامعية ، و هي وسائط تقصد الى مساعدة طلاب القانون، المحامين و الأكاديميين على دراسة القانون المدني الكويتي.

و الموقع مكرس للأدوات التعليمية الخاصة بالمقررات التي أقوم بتدريسها، و هو يمكن الدارسين من جميع كليات الحقوق العربية التي تدرس القانون المدني من الاستفادة من تلك الأدوات التدريسية عبر الانترنت، فهو يحتوي موارد وفيرة خاصة بمقررات الالتزامات و الإثبات، أصول الالتزام، الثقافة القانونية، تشريعات العمل، طرق البحث القانوني، و التدريب العملي (مذكرات المحاضرات، عروض توضيحية، اختبارات قصيرة، اختبارات حديثة، أوراق عمل، جداول مقارنة، شفافيات، أشكال توضيحية، نماذج من أعمال الطلبة للاطلاع).

و يمكن للدارسين و عداهم من المهتمين الدخول على موقــع المقــرر و الاطلاع على جميع المستندات الخاصة بالمواد و طباعتها.

هذا، و يخدم الموقع كل من طلبة الكلية و عداهم من المهتمين من الكويت و خارجها، لا سيما و أن السياسة الذي اتبعتها بشأنه تعتمد الدخول الحر و المفتوح دون تطلب كلمة ً للسر (password).

و قد أظهر العمل أن أكثر المترددين على الموقع هم من مختلف دول العالم العربي، باعتبار أن دولة الكويت تعتبر أنموذجاً لعداها من الدول العربية الأخرى التي تقوم نظمها القانونية على القانون المدني المستقى من القانون الفرنسي و فقهه، سواء في الشرق الأوسط (أي في سوريا، و لبنان، و العراق، و بعض دول الخليج و اليمن) أو شمال أفريقيا ( أي في مصر، و ليبيا، و الجزائر، و تونس و المغرب). فهذا التقارب من شأنه أن يجعل المادة العلمية لهذا الموقع ذات فائدة للمشتغلين بالقانون في جميع الدول المذكورة.

و على حد علمي، فإن الوظائف التي يخدمها هذا الموقع، كوسيلة تعليمية، لا يقدمها أي موقع آخر يتبع لكليات الحقوق العربية. و لذلك، فقد حاز المشروع درجة التقدير الشرفي الاستثنائي من قبل لجنة جائزة اليونسكــو / الملك حمد بن عيسى آل خليفة لاستخـدام تكنولوجيـا المعلومـات فـي مجـال التعليـم (2007)، باعتباره نموذجا ً لاستخدام الإنترنت في تعليم القانون.

*****

و بعد كل ما تقدم،

أشير إلى أنه خلافا ً للفكرة السائدة، فإن العمل الجاد لوحده لا يكفي للعمل الأكاديمي المؤثر مجتمعيا ً، و إنما ينبغي إبراز عنصر القيمة كذلك. من المهم حقا ًأن تتخلل المحاضرات و المشاريع البحثية  منظومة من الأفكارالقيمية، كالتفهم، الإخلاص، الصدق، التسامح، خدمة المجتمع، التعاون و عمل الفريق، التجاوز عن الأخطاء، التواضع، الأمانة العلمية، الإيجابية، حفظ الخصوصية، الزمالة، أعطاء الفرص، و عداها.

هذا ليس تعدادا ً مثاليا ً، إنه جرد لموجودات ضميرية لا يمكن أن تنفصل عن العمل.

استثمر قيمك في عملك. هذا الامر متاح ٌ و سهل، لا سيما وأننا نتعامل في إطار القانون، فما القانون إلا بحر ٌ من القيم، و هذا هو السبب الذي يصنف معه القانون عادة ً باعتباره حقلاً معرفياً معيارياً، مثله كمثل الفلسفة و علم الجمال. هذه إذا ً أرضية علمية تسمح لك بميزة التمسك بالقيم دون أن تظهر بمظهرالمثالي أو الساذج. القيم هي أدواتك. إنه ترف لا يتاح إلا للقانونيين و لسعيدي الحظ فقط.

و عندما تنطلق من قيم ٍ نبيلة، ينبغي أن تكون فخورا ً بمنطلقاتك و أن تبين للمعنيين مدى علاقتها بعملك، حتى تضرب المثل المطلوب. فعلى سبيل المثال، أذكر أن لجنة جائزة المعلوماتية قد ركزت بوضوح على قيم المشاركة المجانية و الإنفتاح و عدم البذخ. كما أن لجنة جائزة أفضل باحث ركزت على قيم الإنضباط و الاستمرار و الأمانة العلمية.

منذ فترة، وقع في يدي كتاب بعنوان “سياست نامة” أو “سير الملوك”. هو كتاب قديم و غير معروف، وضعه الوزير نظام الملك في القرن الحادي عشر الميلادي. كان الوزير نظام الملك صديقا ً للشاعر المعروف عمر الخيام، و وزيرا ً للسلطان السلجوقي ألب أرسلان ثم لإبنه ملكشاه، و هي الأسرة التي وضعت الأساس لحكم كل من الناصر صلاح الدين و الظاهر بيبرس و قلاوون و انتصاراتهم ضد الصليبيين هنا، في هذا المنطقة من العالم.

لقد أدهشني هذا الكتاب من حيث دعوته، في تلك الفترة البعيدة، إلى مبادئ قانونية و إدارية قيمية حقاً، كالحكم الرشيد و سيادة القانون و الشفافية و العدل و المساواة و البروتوكول و الاتصال و التنظيم الإداري، بل و وضعه خطط تنفيذية جد فعالة في هذا الصدد.

لقد أكد لي هذا الكتاب أن ربط العمل بالقيم الإنسانية يكفل له حياة ً طويلة.

*****

و أخيرا ً،

أختم حديثي هذا بأن أوجه خطابي للشباب و الشابات الحاضرين من دارسي القانون، و أبلغهم بأنني أحمل لهم رسالةً أرسلت لهم شخصيا ً. هذه الرسالة كتبت منذ 1477 عاما ً بالضبط. أعذروني على التأخر قليلاً في تسليمها، و لكنني ما وصلت إلى الأردن إلا بالأمس ظهراً!

المرسل هو مخاطبكم الإمبراطور البيزنطي جوستنيان، صاحب مدونة جوستنيان الشهيرة بـ Corpus Juris Civilis، التي يعرف القانونيون حول العالم أنها تمثل أساس القانون الروماني، و الذي يمثل بدوره العمق التاريخي الممتد للقوانين المدنية المقارنة في أغلب دول العالم، و منها القانون المدني في كل من الأردن و الكويت.

قبل أن أتلو نص الرسالة، دعوني أذكركم بأن الخطاب فيها يعنيكم أنتم تحديدا ً، دون عداكم.

السبب في ذلك يعود إلى أن منطقتكم هذه تفخر على العالم ككل بأن الفقهاء الأربعة الذين صاغوا مدونة جوستنيان – و هم غايوس و أولبيان و بولس و مودستان – كانوا من المنتمين للمدارس الحقوقية الشرقية، التي نشطت هنا، و الذي كان يقال عن دقتهم في الصياغة القانونية أنها “تكاد لا تقل عن دقة المهندسين”.‏

نص الرسالة:

“من الإمبراطور القيصر فلافيوس جوستنيان قاهر الألمان و الغوط و الفرنجة، الصالح، السعيد، الطائر الصيت، المنصور، المظفر،

إلى الشبيبة المتشوفين لعلم فقه القوانين،

سلامٌ عليكم،

و بعد، فإنه لكيما تحكم الدولة حكما ً صالحا ً في وقت السلم و في وقت الحرب، لا يجد صاحب الجلالة الإمبراطورية بدا ً من الاعتماد على ركنين: السلاح و القانون.

بالسلاح يستمر قاهرا ً لكل عدو ٍ من الخارج يقصد الدولة بسوء، و بالقانون يقطع دابر المظالم. و بذلك، يكون جديرا ً باللقبين معا ً؛ لقب المظفر المنصور، و لقب نصير العدل.

و إنا بما بذلنا من شدة العناية و بما تجشمنا من المتاعب و المشاق، و بما أمدتنا به معونة الله العلي القدير، قد وصلنا إلى تحقيق هذين الغرضين.

فسارعوا إذن بكل ما أوتيتم من قوة إلى تقبل هذه القوانين التي هيأناها من أجلكم، و جدوا و كدوا و امهروا في الدرس و التحصيل حتى يدب في صدوركم ذلك الأمل النبيل؛ أمل أن تكونوا بعد إتمام الدراسة على استعدادٍ تامٍ للمشاركة في حكومة امبراطوريتنا بقيامكم بأعباء ما يسند إليكم من المناصب”.

صدر بالقسطنطينية،

 في عهد الإمبراطور جوستنيان المظفر،

 في 22 نوفمبر من عام 533 ميلادية.[6]

انتهت الرسالة.

حقاُ، لكم أن تفخرواً.


[1] البيداغوجيا: علم أصول التدريس.

[2]  فالقانون المقارن ليس “قانوناً” بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، و انما هو تعبير يستخدم للإشارة الى المنهجية المطبقة في مقارنة القوانين في نظم قانونية مختلفة.

[3]  المادة 197 مدني كويتي.

[4]  “Simplistic translation is a recipe for disaster”.

[5] نظام الملك الطوسي، سير الملوك (سياست نامه)، ترجمة يوسف بكار (بيروت: دار المناهل، 2007)، ص. 263. (own book)

[6]  مدونة جوستنيان في الفقه الروماني، ترجمة عبد العزيز فهمي (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005)، ص. 1، 3.

حول المنصّة، لا عليها: سِتُّ مقارباتٍ حول المرأة و القضاء في دولة الكويت

قياسي

jus

  

حول المنصّة، لا عليها:

سِتُّ مقارباتٍ حول المرأة و القضاء في دولة الكويت

 –د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

– 

الكويت، 8 مارس 2017

 –

 

مقدمــة

تُكرَّس هذه الورقة لبعض التأملات الانطباعية حول العلاقة القانونية للمرأة بالقضاء في دولة الكويت، و فرص دخولها إلى هذا المجال المهني الذي يبدو مستعصياً لسنواتً طويلة، ربما كمعقلٍ عنيد من آواخرالمعاقل الوظيفية الرجالية في البلاد.

المقاربة الأولى – لماذا صار يجب أن تجلس المرأة على منصة القضاء في الكويت؟

في هذه المرحلة من تاريخ دولة الكويت، أنا أدّعي أن وصول المرأة إلى منصة القضاء تعدى – من حيث طبيعته – “الحق” ليتحول إلى “واجب”: صار القضاء الآن “يحتاج” لوجود المرأة على منصاته.

يمكن تأسيس هذا الرأي على قاعدة من ثغرات أدائية عديدة يتم رصدها تكراراً في الممارسة القضائية في بلادنا، و هي ممارسة و إن كانت تتعلق بمرفق العدالة الذي نفخر به و نحتفي بمخرجاته، إلا أن هذا المرفق – مثله كمثل أية مؤسسة بشرية أخرى – بحاجة دائماً إلى الرصد الناقد و المخلص الذي يعتبر ركيزة أساس في أي تطوير جاد. من هنا، يمكن اختصار ما نشير إليه بالآتي:

  • المنظور الذكوري الخالص (مشكلات الحضانة و البنوة و العنف الأسري مثالاً)
  • الحساسية القيمية
  • إدارة الجلسات
  • تدني الحس التنظيمي
  • العزوف، بشكل عام، عن التوسع في استعمال السلطة التقديرية للقاضي
  • التردد في تطبيق قواعد الرأفة
  • الحاجة الى المنظور الواسع في التعاطي مع وقائع القضايا
  • ضعف القدرة في التعامل مع التحديات الإدارية (مثال: التعامل مع ييروقراطية إدارة الخبراء و كأنها قدرٌ إلهي لا يقبل التغيير).

و لعله من المفارقة أن الحجة التي تُساق عادة للحيلولة دون ارتقاء المرأة لمنصب القضاء هي ذاتها السبب الذي ينبغي أن يُقدم من قِبل مؤيدي تولي المرأة القضاء، أي عنصر العاطفة الذي يُسوّق و كأنه عيبٌ أو نقيصة، في الوقت الذي تتعاطى معه الممارسات المقارنة باعتباره عنصراً من عناصر الذكاء العاطفي و الاجتماعي emotional/social intelligence . التطبيقات القضائية المقارنة في هذا الصدد كثيرة، والأمر مرهونٌ دائماً بالاعتدال.

قرأت مرة مقابلة لتوفيق الحكيم، الأديب المصري (و وكيل النيابة السابق)، قال فيها:

“اعتاد المجتمع ان يجعل منطق الرجل وتفكيره هو المقياس الحقيقي، في حين ان عواطف المرأة ودموعها لا تثير فينا غير الابتسام. و من يدري؟ لعل الحقيقة غير ذلك، و أن القيم السائدة بيننا لا تعدو ان تكون أوضاعاً اجتماعيةً قديمةً تعيش فينا. والدليل على ذلك ان المرأة تتغلب علينا دائما بدموعها ومنطقها وتحقق كل ماتريد. ألا يدلك ذلك على انها على حق، و أنها تستخدم وسائل افعل من وسائل الرجل، و إن كان هذا لا يمنع ان التصوير الفني لهذه الوسائل قد لا تسر له المرأة؟”[1]

بالنهاية، فإن من يشدّدون من موضوع ارتباط المرأة بالعاطفة و يتخوفوّن من توليتها القضاء يفوتهم دائماً أنه في دول النظم الدستورية لا يوجد فضاءٌ يكون العمل فيه “ممنهجاً” و “منظماً” تشريعياً مثل الفضاء القضائي، بما لا يدع مجالاً لمثل هذا التخوف: إن المرأة القاضية التي تمارس عملها بعاطفةٍ طاغية تجور على الموضوعية لن تعمّر على المنصة أصلاً؛ سيكشفها النظام القضائي أصلاً، ثم سيلفظها سريعاً بالضرورة، مثبما كان سيلفظ أي رجلٍ بصفات مثل هذه، لا فرق.

المقاربة الثانية – أهمية تركيز النقاش بشأن المرجعيات و عدم تشتيته

من المنظور الأكاديمي، فان اختيار موضوعٍ واحد، و معالجته بمنهجية، للخروج بنتائجٍ قليلةٍ و لكن محددةٍ هو أفضل دائماً من المحاربة على عدة جبهات معا، بما يشتت جهود المرسل و يؤثر في تركيز المتلقي.

في حالة دولة الكويت فإن المنطلق قانوني، و المرجعية دستورية. لذلك، فإن هذا التحديد من شأنه أن يختصر الكثير من النقاش حول تداخل البعد الاجتماعي أو الديني في المسألة. و كما هو الحال مع الأصول المالية، فإن المرجعيات القانونية الواضحة، المحدّدة هي شكلٌ من أشكال “الأصول” التي يجب استثمارها للمضيّ في النقاشات المجتمعية إلى الأمام دائما، حتى لا نجد أنفسنا نعود دائماً إلى المربع رقم واحد.

من هذا المنطلق، فإن نقاش المرأة و القضاء هو نقاش محسوم و منتهٍ منذ سنوات، إن لم يكن منذ عقود، حقيقة، للأسباب التالية:

  1. فأما المسألة الدينية فخلافية. على مكتبي الآن عشرات الفتاوي المتعارضة الصادرة من ذات الجهات الرسمية – بل من ذات الأشخاص المُعتبرين دينياً – الذين تغيرت فتاواهم بتغيّر الوقت و الظروف (و ما نحن من فتاوى دراسة المرأة و سفرها إلى الخارج و قيادة السيارات و تولي الوظيفة العامة و نيابة البرلمان ببعيدين) . الفقه الإسلامي بستان؛ حديقة غنّاء من زهور الاختلاف و جمالياته. عندما يتعلق الأمر بالمناطق الخلافية، لا يتبقي إلا أخذ قرار الخيار، مثلما فعلت دول إسلامية عديدة: اختارت، فصارت تمثل نماذجاً لنظم إنحازت لفتاوي تولية المرأة القضاء بأسانيدٍ دينيةٍ معتبرة، و الممارسة فيها الآن عريقة و ذات تقاليدٍ راسخة.
  2. و إما مسألة حجة العاطفة فأجدها، حقيقة، حجة معزولة عن الزمان و المكان معا. ربما كان من المفهوم أن تثار هذه الحجة في بدايات دخول المرأة سلك القضاء حول العالم. أما الآن، و بعد أن مرّت عقود على دخول المرأة الى السلك القضائي و إثباتها لنفسها فيه منذ البداية، فقد سقطت هذه الحجة منذ عشرات السنين، فما عادت قائمة و لا تؤدي إثارتها إلا إلى إثارة الشكوك العكسية – حقيقة – حول طبيعة علاقة القائل بها بالعالم من حوله و القلق من ضعف اطلاعه على التجارب القضائية المقارنة. نحن في القرن الواحد و العشرين نعيش في زمنٍ معوْلَم، يتيح لنا مئات القنوات التي تسمح بالاطّلاع على التجارب المقارنة في العالم، و أغلبها – و لا أقول جميعها – تجارب ناجحة بامتياز، بل إن بعضها مبهر، الأمر الذي يحق لنا معه أن نتساءل: لماذا تثبت المرأة نجاحاً كبيرا هناك – من دون أن تكبل حركتها بقيود الأفكار المسبّقة مثل فكرة “العاطفة” – و لا يسمح لها بمجرد التجربة هنا؟
  3. و أما بشأن منظور العرف الاجتماعي، فالعرف أداة ديناميكية، متحرّكة، مطواعة، تتغيّر بتغيّر الاتجاه، و ما اجتماعنا هنا إلا للحديث عن أخذ زمام التغيير تحديداً. هناك أعرافٌ و تقاليدٌ خاصة بالمرأة في الكويت تغيّرت بتدخلاتٍ مثل هذه بشكل صار يشكل نسقاً تاريخية متكرراً (paradigm) يمكن جداً إعادة خلقه:
  • تعليم المرأة
  • توظيف المرأة
  • قيادة المرأة للسيارة
  • دخول المرأة للوزارة
  • دخول المرأة للبرلمان
  • دخول المراة للسلك الدبلماسي
  • دخول المرأة لسلك الشرطة

هذا النسق التاريخي المتكرر يشي بأن المرأة ستنخرط حتماً في سلك القضاء في الكويت، لا شك. لماذا، إذا، نضيع كل هذا الوقت و الطاقة على أنفسنا كمجتمع؟

المقاربة الثالثة – ماذا تضيف النساء للمنصة؟ منظور مفاهيميّ

من أهم التوصيات الهامة التي يبدو أنها تتكرر في أدبيات ندوة المجلس الأوربي بشأن المساواة بين الرجل و المرأة (Council of Europe’s Seminal on Equality between Men and Women) هي أن الفهم الخاص بمنظومة حقوق الإنسان ينبغي أن يتضمن مفهومًا حقيقًا للإنسانية في وجهيها الذكوري والأنثوي معاً، و أن الجنس البشري ثنائيّ بطبيعته و يجب أن يُمثّل دائماً بوجهيه، و أن ذلك لازم للفرار من مصيدة التجريد اللاجنسي (asexual abstraction)، والذي ينتج عنه دائماً اختزال الكائن البشري في صورة ذكورية. فإذا ما قُدِّر للمحاميات والقاضيات – من خلال مفاهيمهن المختلفة عن الحياة – ضخ إنسانية جديدة في عملية صنع القرار فربما استطعن صنع الفارق المنشود.

و في هذا السياق، تظهر الدراسات بأن النساء ينظرن إلى أنفسهن على أنهن مرتبطات بالآخرين ارتباطًا وثيقًا وأنهن أفراد في مجتمع، بينما ينظر الرجال إلى أنفسهم على أنهم يتمتعون بالحرية والاستقلالية عن الآخرين.[2] و يُعزى الأمر الى الاختلافات الجنسية و ثقافة الوظيفة المفترضة في المجتمع ابتداءً من أن الوظيفة الأساسية للمرأة هي تربية الأبناء و الاعتناء بهم. و لأن هوية جنس الأطفال الذكور مختلف عن أمهاتهم، فإن هؤلاء الأطفال يميلون إلى الابتعاد و الانفصال عن الصفات التي تتسم بها أمهاتهم بغية تعزيز ذكوريتهم، من جهة أخرى، فإن الفتيات يرتبطن بأمهاتهن.[3] و بالتالي يمكن تحديد الذكورة من خلال الانفصال والنزعة الفردية؛ أما الأنوثة فتتحدد عن طريق الارتباط وإقامة العلاقات. و بذلك، فإن ما يهدد الهوية الجنسية لدى الذكور هو العلاقات، أما ما يهدد الهوية الجنسية للإناث فهو الانفصال.[4]

و من خلال دراسة المفاهيم الأخلاقية في الأوساط الشبابية، يتبين أن الحس الأخلاقي لدى الإناث يختلف تمامًا عن نظيره لدى الذكور، إذ يعتقد الرجال أن المشاكل الأخلاقية تنبع من تنافس الحقوق، مما يسفر عن العداء بينهم، فيما ترى الإناث أن المشاكل الأخلاقية تنشأ من تنافس الالتزامات، و أن ما يهم هو الحفاظ على العلاقات و تعزيز أخلاقيات الرعاية و الاهتمام. و طبقًا للحس الأخلاقي للنساء، فإن الهدف لا يكمن على تخوم الفوز أو الخسارة، بل في تحقيق أفضل نتيجةٍ ممكنةٍ لأطراف الأزمة الأخلاقية.

و هكذا، فإن مثل هذا التناقض في زوايا النظر لا تصعب معه معرفة أسس التصورات المتباينة لمفهوم العدالة، و هو ما أريد أن اصل إليه من هذا التحليل. إذ تكمن ميزة هذا التحليل في أنه يمكن أن يفسر، ربما، العزوف التقليدي للمحاكم عن الخوض العميق في ملابسات أي قضية، و ميلها الدائم إلى تخفيف حدة النزاع تمامًا من خلال نظامٍ معقدٍ للقواعد الاستدلالية الإقصائية، التي هي سمة مميزة للنظام القضائي القائم على “المغارمة” (adversarial system)، و الذي يقوم على حمل الشاهد على الإدلاء بشهادته، مع تخييره في الإجابة بنعم أو لا و التضييق عليه فيما عداهما مع منعه من التوسّع في ردوده إلا في أضيق الحالات، الأمر الذي ينتهي غالباً بالإحباط بسببٍ من شعور هذا الشاهد بأنه قد اضطر الى التصريح ليس بالحقيقة و إنما بأشباه حقائق مجتزئة من أطرافها.[5]

كما أن مجرد حقيقة وجود النساء على منصة القضاء لهو أمرٌ حريٌ بأن يؤدي دورًا تثقيفياً من حيث المساهمة في التخلص من الأفكار النمطية السائدة حول دور المرأة في المجتمع القضائي الذكوري الذي يعج بالرجال من القضاة والمحامين و أطراف التقاضي والشهود و موظفي المحكمة.[6]

(هذا، ناهيك عن أنه فيما يتعلق بديناميكيات العمل في قاعات المحاكم، فإن المرأة القاضية لا تنظر إلي المرأة المحامية على أنها في غير بيئتها الطبيعية أو على لديها ما يجب إثباته من خلال المثول أمام المحكمة بشأن مناقشة قضية ما أمامها).

المقاربة الرابعة – استكشاف المحتمل: ما كان يمكن أن يكون

ماذا لو قامت مجموعة من الأكاديميات بكتابة الأحكام وفق المنظورالنسوي الغائب (بل المغيّب) في القضايا الرئيسية؟ كيف ستبدو تلك الأحكام؟ و ما هو التأثير الذي ستصنعه تلك؟

في السنوات الأخيرة، أثير جدلٌ كبيرٌ في المملكة المتحدة حول قضية التنوّع القضائي (judicial diversity)، وقد طُرحت عدة أسئلة حول التأثير المحتمل لزيادة أعداد القاضيات وعلى الأخص تأثير تقديم الخبرات التي عاشتها النساء والنواحي النظرية الأنثوية على تطور قانون العموم (Common Law) وتفسير القوانين الأساسية.[7]

يمثل مشروع الأحكام النسوية (the Feminist Judgments Project) الذي أطلقته University of Kent مساهمة جديدة ومبتكرة في هذا الجدل، حيث يعد المشروع مشاركة فريدة وتخيّليّة لما كتبته مجموعة من عالمات القانون الاجتماعي والأحكام النسوية البديلة في القضايا الإنجليزية الهامة. و عوضاً عن التعليق علي الأحكام الموجودة و نقدها، فقد اشتركت المشاركات في ممارسة عملية لكتابة هذه الأحكام، مع إخضاع أنفسهن لمختلف القيود التي يلتزم بها القضاة عادة بما في ذلك النظر في التوقعات المجتمعيّة من القاضي و خبرته الفنية.

ويهدف المشروع إلى تدشين صورةٍ جديدةٍ من الدراسة النقدية السوسيو-قانونية، والتي تسعى إلى توضيح كيفية كتابة الأحكام و كيف كان يمكن أن يتم الفصل في الدعاوى بصور مختلفة.

و تضم مظلة كتّاب هذه الأحكام البديلة لمشروع الأحكام النسوية أكثر من 50 أكاديمياً وناشطاً محامياً، يمثلون شريحة عريضة من المتخصصين بالقانون و الاجتماع من بريطانيا و الذين تتراوح خلفياتهم من أكاديميين و باحثي دراسات عليا و مهنيين و محامين و أعضاء في المنظمات غير الحكومية و منظمات المجتمع المدني.

و من خلال كتابة الأحكام النسوية يسعى هذا المشروع إلى إبراز التحيزات غير المنطوقة و غير المفصح عنها التي تشوب الأحكام الصادرة في القضايا المختارة و تحدي القيم التي تسِم قانون العموم بصفة عامة. و عليه، فهو يقدم منظوراً جديداً و مستحدثاً لدراسة التأثيرات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية على القانون، كما يسهم في التفكير حول التأثير الاجتماعي للقانون في حال ما لو كانت القرارات القانونية أكثر تمثيلاً و احتواءً لخبرات النساء المتنوعة، و أكثر استفادة من الموارد المجتمعية العامة كالنظم المجتمعية و العلاقات التجارية و جهود إصلاح القانون و العدالة الاجتماعية.

و تتمثل أغراض مشروع الأحكام النسوية في الآتي:

  1. إثبات أن الأحكام في القضايا القانونية الرئيسية يمكن صياغتها بطريقة مختلفة و أن القضايا يمكن تسويتها بأساليب متباينة، و أن صدور القرارات على الشكل الذي صدرت عليه لم يكن أمراً حتمياً بالضرورة.
  2. إثبات كيف يمكن إدراج المنظور النسوي بنجاح في الأحكام القانونية، لبيان إمكان الاتّساق بين التوجهات النسوية و القضاء.
  3. إثبات أثر تعيين هيئة قضائية متنوعة (من رجال و نساء) على نتائج القضايا و على الطرق التي تُكتب بها الأحكام.
  4. تقديم معين خصب للأفكار و التوجهات حول المسائل القانونية التي يمكن أن يستنبط منها الحلول و التصورات كل من المحامين و القضاة و الأكاديميين و الطلبة و الناشطين و صانعي السياسات القانونية و عداهم.

أما عن القضايا التي يغطيها مشروع الأحكام النسوية فهي 23 قضية، و تشمل تلك القضايا مجموعة متنوعة من الموضوعات، بما في ذلك:

  1. القضايا النسوية التي تتّصل مباشرة بحياة الكثير من النساء، مثل الإنجاب والإقامة و حضانة الأطفال والتمييز في بيئة العمل والعنف الأسري.
  2. بعض القضايا ذات العلاقة بالحركة النسوية.
  3. القضايا ذات الأهمية التاريخية و التي كان يمكن للمنظور النسوي فيها أن يغيّر من طبيعة القانون.
  4. القضايا التي لا تتعامل مع المسائل النسوية بصورة خاصة و لكن تتناول المسائل المالية الهامة التي تعتبر حيوية لمسألة تخصيص الموارد في المجتمع.
  5. القضايا المركبة التي تعكس قضايا التداخل المجتمعي، مثل النوع و العرق و الجنس و الدين.

و يقتصر مشروع الأحكام النسوية على القضايا التي قررتها المحاكم في إنجلترا و ويلز فقط، و ذلك من أجل التركيز على مجموعةٍ قانونيةٍ واحدة، لا سيما و أن قانون العموم يختلف عن القانون الاسكتلندي والآيرلندي الشمالي من حيث كل من المحتوى و طرق إصدار الأحكام (و التي قد تتأثر بها ممارسات محكمة العدل الأوروبية و محكمة حقوق الإنسان الأوروبية).

هذا، و قد نشرت الأحكام النسوية في مجموعةِ منقحةِ تحمل اسم From Theory to Practice. و يسبق كل حكم فيها تعليقٌ وضعه كاتبٌ مختلف، و تقدم تلك التعليقات القضية للقارئ غير الخبير فتشرح أهميتها و تضعها في سياقيها القانوني و السياسي. و تشمل المجموعة كذلك مقدمة عامة حول الأحكام و منطلقات السياسة القانونية من ورائها، علاوةً على إضاءةٍ حول طريقة الكتابة من منظور نسويّ.

المقاربة الخامسة – معيار الشخص المعتاد كتطبيق عملي:

هل الشخص المعتاد رجل بالضرورة؟

عند تقييم التصرف لتحديد ما اذا كان يشكل خطأً من منظور المسئولية التقصيرية وفق قواعد القانون المدني (أي خروجا ً على السلوك المتوقع من الشخص المعتاد)، فان القضاء يقوم بتقييم الظروف الخارجية / الموضوعية للمدّعى عليه (أي تلك الخارجة عن الشخص نفسه كظرف الزمان و المكان و الأجواء المناخية السيئة) دون تلك الداخلية اللصيقة بالشخص نفسه (كالسن و الصحة و الحالة الذهنية أو مستوى التعليم)، حيث تعتبر ظروفاً شخصية لا يعتدّ بها.[8] من هنا، فإن السلوك المعياريّ الذي يعتبر الشخص المخالف له مخطئا ً خطأ ً تقصيريا ً في نظم القانون المدني هو سلوك الشخص العادي (و هو ما يعرف بـ “معيار الشخص المعتاد”)، و هو شخص افتراضي يمثل أواسط الناس و غالبيتهم، و يقوم عادة بالأعمال المتوقعة منهم.[9] و “معيار الشخص المعتاد” يستند إلى سلوك رب الأسرة الصالح (الذي يسميه الفقه الفرنسي bon père de famille ، مستنداً إلى التسمية اللاتينية bonus pater familias، المستقاة من القانون الروماني).[10]

و في القانون الإنجليزي، فإن الشخص المعتاد في السوابق القضائية هناك يسمى “الرجل الذي يستقل حافلة مدينة كلابام” (the man on the Clapham omnibus) كنية عن الوسطيّة و الاعتياد، فهو شخصٌ من أواسط الناس يتصرّف كما يتصرّف عامتهم و يمارس ما يمارسونه. و قد كان أول حكم قضائي ترد فيه هذه الإشارة إلى “رجل حافلة مدينة كلابام” هو الحكم في قضية McQuire v. Western Morning News.[11] و قد تطورت هذه التسمية الآن لتصبح the man in the street (رجل الشارع)، “الرجل العقلاني” (the reasonable man)، و “الشخص المعتاد” (the average person).

أما موقف القضاء الكويتي بهذا الصدد فهو موقفٌ قديمٌ و ثابتٌ من حيث انتهائه إلى أن التجريد من الظروف الذاتية لشخص المضرور لا يعني التجريد من الظروف الخارجية العامة التي تتناول مجموعة من الناس، إذ تقرر محكمة التمييز أن:

“التجرّد من الظروف الذاتية الملابسة لشخص المضرور لا يعني – على ما أشير إليه في المذكرة التفسيرية – التجرّد من الظروف الخارجية العامة التي تتناول جميع الناس مجموعة أو طبقة منهم، فالقياس المجرّد بالنسبة لطبقة قائمة بذاتها فيما هو من خصائصها، هو واحدٌ من أفراد تلك الطبقة متجرّداً من ظروفه الذاتية. لما كان ذلك، و كان بيّنٌ من الدعوى أن المجني عليه من طبقة الصبيان، فإنه يتعيّن أن يُقاس سلوكه و هو يلهو رفقائه بسلوك صبي من طبقته متجرّداً من ظروفه التي تتعلق بذاته، و لا ينبغي أن يقاس سلوكه بسلوك شخص ناضج السن. و الاعتداد بظرف السن بشأن تقدير الخطأ في هذه الحالة – أي بالنسبة لطبقة الصبيان التي ينتمي إليها المجني عليه – هو اعتدادٌ بظرفٍ خارجيّ عام و لا يعتبر اعتداداً بظرفٍ داخلي شخصي”.[12]

و هناك من يعترض على ذلك بدعوى عدم عدالة هذا المعيار المغرق في التجريد و جموده، فينادي بتطبيق معيار “المرأة المعتادة the reasonable women standard” مثلاً في الحالات التي تتعلق بخصوصية وضع المرأة (كقضايا الخطأ المختلِط بحالات الدفاع عن النفس في حالة التعرّض لمواقف خطر الاعتداء الجسدي / الجنسي مثلاً). [13]

و على سبيل المثال، ففي قضية Safford Unified School District v. Redding التي نظرتها المحكمة العليا الأمريكية، سمع القضاة كيف قام مسؤولو المدرسة بتفتيش فتاة من أريزونا تبلغ من العمر 13 عام، فجرّدوها من ملابسها لاعتقادهم بحيازتها لمادة الايبوبروفين المخدرة و من ثم انتهائهم إلى خرقها لقواعد المدرسة. و عندما ضحك بعض قضاة المحكمة من وقائع القضية فتعامل مع الأمر باستخفاف قائلاً “الأمر يشبه ما تعرّضت له أنا في النادي الرياضي”، شوهدت القاضية Ruth Bader Ginsburg غاضبة، إذ قالت محتدّة “الموضوع لا يشبه ما يحدث في النوادي الرياضية. الأمر هنا لا ينبغى أن يؤخذ بخفة، فهو ليس تفتيشاً بسيطاً. نحن بصدد فتاةٍ صغيرةٍ تم إخضاعها للتفتيش من قبل سلطات المدرسة بطريقة تدخّلية بشكلٍ لا يصدّق و من دون موافقةٍ من والديها”. فيما بعد، كان قرار المحكمة 8-1 لصالح الفتاة الصغيرة.[14]

و خلاصة الامر هنا هي أنه للتطبيق الأمثل لمعيار الشخص المعتاد ينبغي تطعيم الهيئات القضائية بالنساء. فرغم كل ما يقال عن تجرّد القضاء و معاييره الموضوعية، تبقى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن التجربة الشخصية للقاضي هي عامل تأثير بالضرورة، فالقاضي يقرّر اعتباراتٍ مثل النظام العام و الآداب العامة و المصلحة العامة من خلال تجربته الشخصية منظوراً إليها من واقع خلفيته الذاتية، تجربته الحياتية، و شريحته الاجتماعية، و هذه جميعها – وفق طبيعة الأمور – تسِمُ قراراته بطابعها حتماً، مهما حاول التجرّد.[15]

 

المقاربة السادسة – القانون كأداة للتغيير

القانون هو من العلوم المعياريّة التي تعنى بتقرير “المفروض”، أي ما يجب أن يكون، و وضع معايير و نماذج يجب تحرّيها، مثله في ذلك، ربما، كمثل علم الأخلاق و علم الجمال اللذين يُدرّسان في إطار الفلسفة.

هذه الصفة المعياريّة للقانون تجعله أداة من أدوات الحكم التي تسمح بتوجيه المجتمع و تشكيل السلوك فيه. و يمكن هنا، من قبيل المقاربة لا أكثر، القول بأن القانونيون في ممارستهم لمهامهم التشريعية يمارسون دوراً هو أقرب إلى الهندسة، من حيث أنهم يصممون البِنى الاجتماعية بصورة تماثل دور المهندسين في تصميم البنى المادية. و يمكن للمتأمل – إذا ما أمعن النظر – أن يرى بوضوح أن أدوات القانون كالدساتير والقوانين و العقود و الشركات و الصناديق الإستثمارية ما هي في حقيقتها سوى مبان و طرق و جسور و سكك حديد للحياة الاجتماعية.

هذا، بالإضافة إلى أنه كثيرا ً ما يواجه القانونيون بمعضلاتٍ ذات أبعادٍ قيمية يتطلب التصدّي لها التسلّح بأدواتٍ قوامها دراسة القانون و الأخلاق و الأديان و الطب، كما هو الحال في مسائل القتل الرحيم (Euthanasia)، زراعة الأعضاء (organ transplant)، العمليات التجميلية (plastic surgeries). و لعل أبلغ مثالٌ على هذه التعقيدات هو ما أظهره واقع العمل القانوني من خلال دعاوى تأجير الأرحام (surrogacy)، و التي أسالت الكثير من الحبر في البيئات التي ظهرت فيها.

و الخلاصة، أنه ينبغي أن نعتاد النظر إلى القانون باعتباره متغيراً ديناميكياً وليس مجرد عامل ستاتيكي ثابت في منهجه المنطقي. و هو أمر شديد الأهمية، فما القانون في النهاية إلا رسائل يرسلها المجتمع حول أوضاع معينة أو أنشطة محددة للتعبير عن توجهاتٍ حالية يصر عليها، أو فرص مستقبلية يتطلع إليها.

  خاتمة

بعيداً عن المنظور النسوي الضيق، و قريباً من المنظور الإنساني الواسع، فرغم أن المرأة متواجدة الآن بوضوحٍ في النظام القضائي الكويتي (موظفة في قصر العدل، مستشارة في المكاتب الأسرية لقضاء الأحوال الشخصية، محامية في الدعاوى، و خبيرة في إدارة الخبراء) إلا أننا ينبغي ان نتذكر بأن وجودها فيه لم يتم بسبب “التحرك في حدود الممكن”، و إنما بسبب التحرك “ضد” هذا الممكن تحديداً و رفع سقفه.

بل أنه، في الحقيقة، لو كانت المرأة في الكويت قد قبلت “بالتحرك في حدود الممكن” كما يُراد لها الآن لما تمكنت مؤخراً – و بعد صراع دستوريّ و اداريّ طويل – من دخول سلك النيابة العامة (و هو إنجاز لم يتحقق إلا منذ بضع سنوات).

عقيدتي الشخصية هي أن “الممكن” بالنسبة للانسان ليس أرضا يقف عليها، بل سقفاً ينبغي أن يعتاد اختراقه، الى آفاقٍ أعلى دائماً.

هذا – تحديدا – هو منطق التقدم البشري.

______________________________________________

[1] “مقابلة مع توفيق الحكيم” في: فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون، كتاب الهلال، مجلة الهلال، العدد 172، يوليو 1965.

[2] C. Gilligan, In a Different voice: Psychological Theory and Women’s Development (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1982).

[3] N. Chodorow, The Reproduction of Mothering: Psychoanalysis and the Sociology of Gender (Berkeley: University of California Press, 1978) at 91, 167-70

[4] Gilligan, supra, note 37 at 8.

[5] Bertha Wilson, ‘Will Women judges Really Make a difference?’, Osgoode Hall Law Journal, Volume 28, Number 3, Fall 1990, p. 519-522.

[6] S. Sherry, ‘The Gender of Judges’ (1986) 4 Law & Inequality 159 at 160.

[7] انطلقت شرارة هذا المشروع من مشروع مماثل في كندا وهو محكمة النساء الكندية (Women’s Court of Canada – WCC) حيث اشتركت مجموعة من العالمات في كتابة أحكام الظل حول قرارات المحكمة العليا الكندية بشأن المادة 15 من الميثاق الكندي للحقوق والحريات (the Canadian Charter of of Rights and Freedoms) – و تحديداً الفقرة الخاصة بالمساواة – بهدف توضيح كيف يمكن لمفهوم المساواة الوضعية أن يمنح تفسيرات عملية قضائية. وقد نشرت الأحكام الست الأولى في المجلد 18 من The Canadian Journal of Women and Law، كما أن بعضاً منها متاح كذلك على الموقع الالكتروني للمحكمة الكندية. كما أن هناك باحثين أمريكيين قد تمت دعوتهم للمساهمة في المشروع و كانت لهم كتابات فيه.

[8] لمناقشةٍ أوسع، انظر: عبد الرزاق احمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني – المجلد الثاني: مصادر الالتزام، ط. 3 (بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، 1998)، ص. 882-889.

[9] و ليس هناك ما يمنع من أن يكون الشخص المعتاد “نسبياً”، أي يمثل فئة أو طائفة معينة من المجتمع، كالأطباء على سبيل المثال، بمراعاة ما تفرضه المهنة من فنٍ و حرص.

[10] في القانون الروماني، كان نطاق الحالة العائلية (status familias) يرتكز على السلطة الأبوية (patria potestar) و ما ينجم عنها من حقوق و واجبات أسرية و مالية معاً. انظر: محمود السقا، “شيشرون خطيباً و فيلسوفاً و فقيهاً”، مجلة العلوم القانونية و الاجتماعية (جامعة عين شمس)، العدد الثاني، السنة 17، يوليو 1975، ص. 52.

[11] McQuire v. Western Morning News [1903] 2 KB 100.

[12] دائرة التمييز، الحكم رقم 42/1975 تجاري، صادر في جلسة 3/11/1976، منشور في: مجلة المحامي (تصدر عن جمعية المحامين الكويتية)، العددان 11 و 12 إبريل-مايو 1978، ص. 63.

[13] Kim Lane Schepple, ‘The Reasonable Women’, In: Philosophy of Law, Ed. By Joel Feinberg and Jules Coleman (Belmont: Thompson-Wadsworth, 2008), P. 327.

[14] http://www.law.virginia.edu/html/alumni/uvalawyer/f11/women.htm

[15] Bertha Wilson, ‘Will Women judges Really Make a difference?’, Osgoode Hall Law Journal, Volume 28, Number 3, Fall 1990, p. 510.

“الصمت كقبول في العقد”، هاورد ل. ستوفال

قياسي

الصمت كقبول في العقد

ملخص موجز عن القانون بمنطقة الشرق الأوسط العربية

هاورد ل. ستوفال

ترجمة الطالبة ريم أحمد العتال

إشراف: د. مشاعل الهاجري

 

كلية الحقوق – جامعة الكويت

8-silence

_

هناك العديد من الحالات التي قد ترغب فيها الشركة في مراجعة ترتيباتها التعاقدية دون تكبُد الوقت والمصروفات للحصول على موافقة خطية من الطرف الآخر. فمثلًا:

  • قد يرغب المورِّد في مراجعة شروطه وأحكامه العامة، دون السعي إلى إجراء تعديل رسمي لكل من اتفاقيات التوزيع الدولية العديدة؛ أو
  • قد يرغب صاحب العمل في مراجعة خطة اختيار الأسهم الخاصة به دون السعي إلى الحصول على اتفاقية رسمية من كل موظف من موظفيه حول العالم.

بموجب المبادئ القانونية السارية في كل بلد من بلدان الشرق الأوسط العربي، يتم إنشاء عقد مُلزم بشكل عام عند تبادل عرض صالح وقبول. في معظم الحالات، لا يكون الصمت أمام العرض كافيًا لتحقيق مثل هذا القبول. ومع ذلك، هناك بعض الإستثناءات المحدودة التي يمكن اعتبار السكوت فيها قبولًا، كما يتم تلخيصها بإيجاز في المناقشة التالية.

 

  1. الصمت في ظل الشريعة الإسلامية.

يعتمد الإتفاق في الشريعة الإسلامية على الموافقة المتبادلة للأطراف. بشكل عام، لا يُعتبر الصمت تعبيرًا عن الإرادة الإيجابية، وتنُص القاعدة العامة للقانون الإسلامي على أنه “لا يُعزى أي قرار إلى الشخص الصامت”. في الواقع، عادةً ما يكون من الطبيعي أن نفترض أن الصمت هو مؤشر على الرفض وليس القبول. ولكن في بعض الحالات، قد يكون الصمت مصحوبًا بظروف تُشير إلى القبول، على سبيل المثال، عندما تكون الإستجابة مطلوبة قانونًا. في تلك الحالات، إذا أراد الشخص الصامت أن يعترض، لكان قد تحدث، لكنه ظل صامتًا عندما نشأت الحاجة للتحدث.

 

وبالتالي، فإن القاعدة التكميلية بموجب الشريعة الإسلامية هي أن “الصمت عندما تتطلب الضرورة التحدُث هو في حد ذاته قرار”.

 

يتضمن قانون “الماجيلا” في العهد العثماني (القانون العثماني المدني القديم)، وهو عبارة عن مجموعة من قواعد الشريعة الإسلامية تمت صياغتها في القرن التاسع عشر، تتضمن عددًا من القواعد القانونية العامة. تُناقش المادة 67 من “الماجيلا” مسألة اعتبار الصمت كقبول:

لا يُنسب أي قرار إلى رجل يظل صامتًا، لكن الصمت يُعتبر بِمثَابةِ القرار إذا كانت هناك ضرورة مطلقة للتحدث. وبعبارة أخرى، لا يجوز القول إن الشخص الذي يظل صامتًا قد أدلى بمثل هذا التصريح أو ذاك، ولكن إذا بقي صامتًا عندما كان يجب عليه أن يقوم بتصريح، فإن مثل هذا الصمت يُنظر إليه كقبول وتصريح.

وتنص المادة 104 من قسم المبيعات بقانون “الماجيلا” على أن ” يتألف إبرام العقد من ربط العرض والقبول معًا بطريقة قانونية بحيث تكون النتيجة واضحة تمامًا”. ومع ذلك، فإن المادة 175 من قانون “الماجيلا” تؤكد على أنه “يجوز أيضاً إتمام البيع بأي تصرُف من جانب الأطراف وهو دليل على العرض والقبول. وبصفة عامة، يسمى هذا البيع عن طريق تصرّف الأطراف.

 

على سبيل المثال، عندما يقوم المشتري بدون مساومة ودون إبداء أي تصريح بإعطاء المال لخباز ويقوم الخباز في المقابل بتسليم الخبز إلى المشتري، يُعتبر أنه قد تم إبرام عقد البيع. وبالمثل، عندما يقوم المشتري بعرض النقود ويأخذ البطيخ، بينما يظل بائع الفاكهة صامتًا، يُعتبر أنه قد تم إبرام عقد البيع.

 

  1. الصمت بموجب القوانين المدنية العربية

تم تبني قواعد الشريعة الإسلامية العامة المذكورة أعلاه في القانون المدني الأردني ، الذي حل محل المجلس في ذلك البلد في عام 1976. تنص المادة 95 (1) من القانون المدني الأردني على أنه “لا يجوز اعتبار الشخص الذي يبقى صامتًا بيان ، ولكن السكوت في مواجهة ظرف يتم فيه الدعوة إلى بيان يعتبر بمثابة قبول”. بالإضافة إلى ذلك، تصف المادة 95 (2) من القانون المدني الأردني حالتين محددتين يعتبر فيهما الصمت قبولاً:

على وجه الخصوص، يعتبر الصمت قبولًا إذا كانت هناك تعاملات سابقة بين الأطراف المتعاقدة وكان العرض مرتبطًا بمثل هذه التعاملات، أو إذا كان العرض لا يستفيد منه إلا مُقدم العرض.

يحتوي القانون المدني الإتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي تأثر بشكل كبير بالقانون الأردني، على حكم مماثل (المادة 135)، وكذلك القانون المدني العراقي (المادة 81)، والقانون المدني المصري (المادة 98)، والقانون المدني الليبي (المادة 98)، والقانون المدني السوري (المادة 99)، والقانون المدني الكويتي (المادة 44)، والقانون المدني القطري (المادة 73)

مع المُلاحظة أن الحالة الثانية من هاتين الحالتين ضيقة للغاية، حيث أن العرض يجب أن يكون بشكل منفرد لمصلحة مقدم العرض.

في الحالة الأولى من هاتين الحالتين، قد نتخيل مثالًا حيث يقوم المُصنّع عادةً بشراء الحاجيات من تاجر معين بانتظام. بعد ذلك يكتب المُصنّع إلى التاجر يطلب منه إرسال كمية معينة من الحاجيات في شهر واحد بسعر السوق. إذا لم يرُد هذا التاجر، يحق للشركة المصنعة افتراض أن الموزع قد وافق على العرض. مثال آخر حيث يمكن الإستدلال على الإتفاق من مسار التعامل المسبق للطرفين: يقوم المُصنّع بالأعمال التجارية بإرسال شحنة من السلع إلى الموزِع كتلك التي كان قد تم تداولها من قبل. سيكون صمت الموزع في هذه الحالة بمثابة قبول الشحنة.

 

قد نتخيل أيضًا شركة ترغب من جانب واحد في تعديل خطة اختيار الأسهم الخاصة بموظف. وبالنظر إلى أن صاحب العمل والموظف كان لهما تعامل سابق مع الخطة، فقد يقوم صاحب العمل ببساطة بإرسال إشعارًا بالتعديل لكل موظف، ويفترض أن التعديلات سارية إذا لم يعترض الموظف. وبالنظر إلى أن خطط اختيار أسهم الموظفين هي في المقام الأول مسألة عقد بموجب قوانين معظم بلدان الشرق الأوسط العربية، ينبغي أن يكون صاحب العمل قادراً على الحصول على اتفاق “صامت” للموظف بهذه الطريقة. (من بين الطرق التي يمكن من خلالها تقليل المخاطرة هو قيام صاحب العمل بسداد دفعة لكل موظف عن طريق شيك مصحوب برسالة تفيد بأنه إذا قام الموظف بصرف الشيك، فسيُعتبر أنه وافق على تعديلات خطة الأسهم)

تحتوي المادة 81 من القانون المدني العراقي على الظروف الإضافية التالية التي يعتبر فيها الصمت قبولاً:

“صمت” المُشتري بعد استلام البضائع المشتراة يُعتبر قبولًا للشروط الواردة في قائمة الأسعار.

يوجد حكم مماثل في المادة 44 من القانون المدني الكويتي والمادة 73 من القانون المدني القطري). ويبدو أن هذه القاعدة تنطبق أيضًا على الشروط والأحكام العامة للبيع والضمانات المحدودة للمنتجات والأحكام المماثلة الواردة في فاتورة البائع أو فاتورة البيع أو ما شابه. في الواقع، تنص المادة 180 من القانون اللبناني للإلتزامات والعقود تحديدًا على أن “صمت مشتري البضائع، بعد تسليمها، يُعادل قبول البنود الواردة في الفاتورة”.

 

وعلى هذا الأساس، يُمكن للمُصنٍع أن يُعيد النظر في الشروط والأحكام العامة للبيع، للمعاملات الحالية وجميع المعاملات المستقبلية، عن طريق وضع التعديلات في قائمة الأسعار أو الفاتورة الخاصة بمبيعات معينة، دون الحاجة إلى قبول رسمي من الموزع المعني. إن قبول الموزع لشحنة معينة، ودفع الفاتورة الخاصة بها، سيكون بمثابة اتفاق “صامت” على التعديلات.

 

وأخيراً، يحتوي القانون المدني المصري على حكم آخر (يعكس فيما يبدو القانون السويسري) حول فعالية الصمت: “في حالة لم يستطع مُقدم العرض توقٌع قبولًا رسميًا، وذلك بسبب طبيعة المعاملة، وفقًا للشروط التجارية أو بسبب ظروف أخرى، يُعتبر العقد قد تم إبرامه إذا لم يتم رفض العرض في غضون فترة زمنية معقولة” يرد نص مماثل في القانون المدني الليبي (المادة 98) والقانون المدني السوري (المادة 99)

 *             *              *              *

هناك مخاطر قانونية لا مفر منها ذات نهج يعتبر الصمت قبولًا. في معظم الحالات، يُنصح الطرف بالحصول على موافقة كتابية صريحة من الطرف التعاقدي الآخر. ومع ذلك وفي ظروف محدودة، يُمكن لشركة ما أن تشعر بالراحة من حقيقة أن القوانين المدنية العربية تعترف بالإستثناءات التي تسمح بأن يُعتبر الصمت قبولًا.

 

تهدُف هذه المذكرة إلى تلخيص بعض المبادئ القانونية العامة للعقد في الشرق الأوسط العربي، ولكن ليس لتقديم المشورة القانونية بشأن أي مسألة قانونية محددة. يرجى إعلامنا إذا كان لديكم أية أسئلة أو تعليقات بخصوص المعلومات الأساسية الواردة في هذا الملخص، أو إذا كان بإمكاننا المساعدة فيما يتعلق بأية مادة (مواد) قانونية في الشرق الأوسط.