Tag Archives: حمهورية جورجيا

رحلتـي إلـى جمهوريـة جورجيـا: دراسـة حالـة لبلد فـي وضع تحـوّل

قياسي

رحلتي إلى جمهورية جورجيا

(دراسـة حالـة لبلـد فـي وضع تحـوّل)

A Case Study

 –

 د. مشاعــل عبــد العزيــز اسحــق الهاجــري

Mashael.alhajeri@ku.edu.kw

28 نوفمبر 2011

 

(أصول قانون):

كما وعدتكم: جورجيا. البلد الذي، في محاضراتي، أكثرت عليكم من التمثيل بتطبيقات قضائية مقارنة منه.

أولا، بعض من المعلومات المملة، و لكن اللازمة.

جورجيا هي إحدى جمهوريات القوقاز  السابقة في الاتحاد السوفيتي. استقلت عنه في إبريل من عام 1991 ، لتدخل فوراً في حرب أهلية دامية، حصل على إثرها إثنان من أقاليمها التسعة على الاستقلال الذاتي داخل الحدود الجورجية، و هما إقليمي أبخازيا و أوسيتيا الجنوبية. لجورجيا تركيبة سكانية مثيرة للاهتمام فعلاً من حيث التنوع. فهذه البلد الصغير نسبياً  (حوالي 70 ألف كم2) يبلغ تعداد سكانه حوالي خمسة ملايين نسمة، منهم حوالي  نسمة. يشكل الجورجيون حوالي 83% من هؤلاء، أما الباقي فتتنوع خلفياتهم العرقية و الإثنية بشكل واسع (أذريون، أرمن، روس، أبخاز، أوسيتيون، آشوريون، شيشان، صينيون، يونانيون، أكراد، أتراك.، و يهود. و من الجدير بالذكر أن اليهود في جورجيا يشكلون واحداً من أقدم المجتمعات اليهودية في العالم). إلى الآن، لم تتجاوز جورجيا الآثار القاسية لأوضاع التحول (انفصال عن الاتحاد السوفيتي / الحرب الأهلية)، فبعد بعد أن  كانت من أغنى الجمهوريات السوفيتية، انحدرت الأوضاع الاقتصادية اثر تحولها من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق، و ما زالت تعيش هذه المرحلة الانتقالية الحرجة.

ما يلي – في الحقيقة – هو أبسط من أن يرقي إلى العنوان الجاف (و الاستعراضي، لنعترف) الذي وضعته لموضوعي هذا.

ما ستجده هنا هو خليط من صور رصدتها عدسة مسافرة، و انطباعات سجلتها ذاكرتها.

و الخلفية وراء الإثنين هي بلد جميل، مختلف، منعزل، و قلق.

(1) دير جيلاتي Gelati monastery:

في الفترة من القرن 12 إلى القرن 17، كان دير “جبلاتي”  الأرثودوكسي  (Gelati monastery) الذي يقع في المنطقة الغربية من جورجيا واحداً من أهم أكاديميات العلوم الأوروبية. فيه دفن الملك ديفيد الرابع و المعروف بديفيد البنّاء (King David IV)، الذي قاد معركة “ديدجوري” الفارقة تاريخياً (the battle of Didgori)، التي دارت بين جيش مملكة جورجيا و بين جيش الدولة السلجوقية المسلمة عام 1121، و التي تم من بعدها استرداد جورجيا من السيطرة الإسلامية.

من الداخل، كاتدرائية الدير هي تحفة حقيقية في فنون المعمار الكنسي من حيث التصميم، الفسيفساء و رسومات الحائط (ما يلفت نظري في كثير من الكنائس الأرثوذكسية هو طابعها العملي: القسيس لا يطيل في عظته، و المؤمنون وقوف؛ فلا كراسي يجلسون عليها. عقيدة براغماتية؟)

كمسيحي متواضع، و قبيل موته، أوصى راعي الدير، الملك ديفيد الرابع، بأن يدفن في أرض الدير و أن يُمسح قبره فيكون على مستوى الأرض فلا يُقام عليه شاهدٌ و لا نصب، بحيث يدوس عليه زوار الدير جيئة و ذهاباً، رغبة منه في التكفير عن ذنوبه الدنيوية، و كعلامةٍ من علامات التواضع و الدعة.

كان الناس يدوسون قبره أمامي احتراماً لوصيته. أما انا، فلم أجد في نفسي القدرة على فعل ذلك (ما زلت أحاول أن أصل لقرارٍ حول الطبيعة الأخلاقية لتصرفي هذا: هل ازدريت بوصية رجل عظيم، أم احترمت ذكراه؟)

هذا الدير مصنفٌ عالمياً كموقع تراث محمي للإنسانية من قبل منظمة اليونسكو (A UNESCO World Heritage Site).

 كنت هناك؛ أقدّر جماليات الدير: أتأمل في تاريخه، و أتجمد برداً.

 –

(2) مدينة جوري Gori:

على بعد حوالي 10 كيلومترات من مدينة جوري (Gori)، مسقط رأس الزعيم السوفيتي السابق جوزيف ستالين، و في كهوفٍ جبليةٍ كانت مأهولة في القرن الـ 15 قبل الميلاد، وجدتُ هذه العبارة – لدهشتي – محفورة على الحجر و بحروف عربية داخل أحد الكهوف، لتكون العبارة العربية اليتيمة وسط عدة نقوش أجنبية تركها سواح من القرن الـ 18:

“مجنونٌ مثل عربيّ”.

حتى الصخور تنطق بجنوننا.

 –

 (3) العاصمة تبيليسي Tbilisi:

 –

عندما تمشي في أية مدينة، عودّ نفسك أن تنظر إلى “قاعها” أيضاً:
أغطية المناهيل و الخدمات الأرضية.
لا تترفّع. “قاع” المدينة يحمل دائما “ختم” المدينة.
تماماّ كالإمضاء في أدنى اللوحة.

(4) العاصمة تبيليسي Tbilisi:

هذا هو نصب سان جورج المهيب في العاصمة الجورجية، تبيليسي. 

سميت جورجيا نسبة إلى “سان جورج” Saint George (و يعرف أيضا عند المسيحيين العرب بـ “القديس جورج” أو “القديس جورجي  في بلاد الشام، و “مار جرجس” في مصر، فيما اعتقد). و هذا القديس هو شفيع الكثير من دول و مدن العالم المسيحي (في بريطانيا وحدها 152 قرية تحمل إسمه، كما أن علمها يسمى “علم سان جورج” The Saint George flag).

على فكرة، يعرف القليلون أن القديس سان جورج هو نفسه “الخضر”؛ الولي الصالح الذي يعتقد به المسلمون.

القطيعة بيننا و بين الآخرين مصطنعة. ها قد تبين أن بيننا و بين المسيحيين جسوراً ربانية من الأولياء و القديسين.

(4) مدينة باتومي Batumi (على البحر الأسود):

 –

 قد تكون الشيوعية سقطت في جورجيا، و لكن الأكيد أن موروثها الذهني مازال مستمراً هناك.

لدي شبه قناعة ان هؤلاء كانوا يتبعوننا طوال الوقت.

كي جي بي  KGB؟  : )

 —

(5) مدينة باتومي Batumi (على البحر الأسود):

أحد الأصدقاء (مُجيداً تماماً لدور الرحالة!)

(6) العاصمة تبيليسي Tbilisi:

 –

معرض فني، يعلم الله كم تحايلت على ساعتي (و على أصدقائي) حتى أتمكن من حضوره.

كان للفنان رؤية تلصّصية / هَوَسيّة رائعة:

جميع لوحاته رُسمت من منظور باب مفتوح، بزاوية تسمح باستراق النظر فقط، دون الدخول.

Obsessionist?

 

(7) مدينة سيجناغي Signagi  (“مدينة الحب … و الزيجات السريعة!”):

هناك سبب وجيه لهذه الوقفة الفخورة:

لافندر!

هذه السيدة تكنس الشارع بأزهار اللافندر!

(أظن أن من ينظف الشارع بالورود، لا يكنسه؛ بل يُربّت عليه).

 –

(8) العاصمة تبيليسي Tbilisi:

لشرفات العاصمة تبيليسي طابعٌ معماريٌ فريد، لم أخبره من قبل.

ما زلت أبحث في كتب المعمار للتعرّف على طرازه.

 –

(9) مدينة جوري Gori:

 –

في متحف جوزيف ستالين في مدينة جوري (Gori)، من خلال العدسة الفنانة لبعض الأصدقاء.

ستالين هو ثاني زعيم للاتحاد السوفيتي و دكتاتوره القاسي الصلب، و الذي يُذكر له – رغم الفظائع – أنه نقل الاتحاد السوفيتي من اقتصاد الاقطاع الى اقتصاد الصناعة، ليتحول على يديه إلى قوة عظمى.

أن تكون في “جوري” جوزيف ستالين هو شيءٌ ربما كان أقرب ما يكون لأن تكون في “تكريت” صدام حسين، مع الفارق.

 –

 (10) العاصمة تبيليسي:

باليه “جيزيل” (Giselle):

جيزيل فتاة جميلة، يتنازع قلبها – الضعيف أصلاً – حب إثنين؛ أمير و صياد. تموت بعدها لتعود روحها كبطلة للرواية.

كان الفصل الأول حالماً حتى أنني غالبني النعاس فيه.

أما الفصل الثاني فقد بلغ من ديناميكيته أنني وجدت أصداءه في رأسي لأيام تلت.

 —

(11) سوق الأحد للأدوات القديمة:

الحروب خدعة كبيرة.

دماءٌ و موتٌ و آلام، يُدفع ثمنها بأوسمةٍ هي في أشكالها للعب الأطفال الملوّنة أقرب: بعضها قماشيٌّ (يهترأ) و الآخر معدنيٌّ من صفيح (يصدأ).

بلغ الابتذال بهذه الأوسمة أن تُعرض على طرقات الشوارع بأبخس الأثمان، ثم لا تجد من يشتريها.

رخيصةٌ هي الحروب.

(12) مدينة باتومي Batumi (على البحر الأسود):

في مدينة باتومي الواقعة على البحر الأسود سكينة. لن أصفها.

السكينة لا توصف بالكلمات.

(12) مدينة باتومي Batumi (على البحر الأسود):

عندما تمشي في طرقات باتومي Batumi، تلك المدينة الهادئة المطلة على البحر الأسود، تتحول ذهنيتك إلى القرن التاسع عشر تدريجياً، فتشعر و كأنك أحدى شخصيات قصص أنطون تشيخوف Anton Tchekhov القصيرة/الحزينة:

” … و بنفسٍ ثقيلة، حزمت إيلينا أيفانوفتش حقائبها، و غادرت إلى المصيف. في الصباح، كانت إيلينا ترمي بهمومها على شاطئ البحر الأسود، أما في فترات الظهيرة، فقد كانت تتسكّع بين أشجار الحور الباسقة، ضجِرة، في انتظار تلك الرسائل التي توعَدُ بها من دون أن تصل أبداً …”.

… أو، على الأقل، شيئٌ من هذا القبيل …

(13) مدينة جوري Gori:

من مرتفعات جوري –  مدينة الكهوف المحفورة في حجر الجبال، و التي تجسّد موروث العناد لدى الشعب الجورجي – يمكنك أن ترى السهوب الجورجية الشاسعة الممتدة على مد البصر.

هنا، هنا فقط، و في يومك الأخير في جورجيا، يباغتك شيئٌ مهمٌ، مثل كشفٍ متأخرٌ و مفاجيء: رغم أنها أول زيارة لك، تتذكر أنك تعرف هذا البلد مسبقاً؛ تعرفه معرفةً جيدة، لأنك – في سنوات تكوينك الأولى – قرأت عنه كثيراً في كتابات كوستلر Koestler و ليرمونتوف Lermontov  و تولستوى Tolstoy و شتاينبك Steinbeck .

و لكن لا مفاجأة في ذلك، لأنك صرت تدرك الآن أن  جورجيا هي من ذلك النوع الخاص من البلدان؛ النوع الذي لا يترك ذكريات، بل يحفر انطباعات.

v