Tag Archives: LSD

ساعاتــي الإثنـا عشـر كمجنــون

قياسي

ساعاتــي الإثنـا عشـر كمجنــون

بقلم: سيدني كاتز، 1/10/1953

4a8b51ca1dd075a8fc76b1657cac22f1[1] 

ترجمة: د. مشاعل عبد العزيز الهاجري

‏19‏ يناير‏، 2016

  

 

شكرا عطاف المطوع.

في إجازة الربيع، كنت أُملي، و كانت تطبع.

الإجازات فرص، لا حجج.

 

ساعاتــي الإثنـا عشـر كمجنــون[1]

بقلم: سيدني كاتز

1 أكتوبر، 1953

 

مقدمة قصيرة

هذا المقال المنشور في مجلة Maclean’s كان أول معالجةٍ شعبيةٍ لعقار LSD . من يربطون هذا العقار بحقبة الستينات سيتفاجئون عندما يعرفون الطريقة التي كان هذا العقار مصنفاً فيها في أوائل الخمسينات. في تلك الفترة، كان الناس يعتقدون أن عقارLSD  يتسبب في حالة ذهان مؤقت: شيزوفرينا اصطناعية.[2] لذلك، نصح بعض الأطباء النفسيين بأن يقوم أطباءٌ آخرون بتعاطي هذا العقار كوسيلةٍ لتجربة الشيزوفرينا من الداخل. فيما يلي، قمت بترجمة بداية مقال كاتز و نهايته.[3]

هذا التقريرٌ يعرض تجربة محرّر مجلة Maclean’s دقيقة بدقيقة، عندما تناول عقار تجريبي حوّله الى فصاميٍ يخبر الهذيان: كل ما رآه، ما شعر به، ما قاله و ما فعله تم توثيقه بواسطة تسجيلاتٍ صوتيةٍ و صورٍ و شهودٍ ذوي خلفية علمية، إضافة الى ذكرياته الشخصية المُعذَّبة، و التي مازالت تطارده حتى الآن.

* * *

في صباح يوم الخميس، 18 يونيو 1953، تناولت عقارا حوّلني – لمدة إثني عشر ساعة لا تُنسى – إلى مجنون. لاثنتي عشر ساعة، عشت في عالمٍ كابوسيّ اختبرت فيه عذابات الجحيم و نشوة الجنان معاً.

لن أتمكن أبداً من أن أصف ما الذي حدث لي بالكامل خلال رحلتي الى عالم الجنون. في اللغة الانجليزية بأكملها، لا توجد كلمات مصممة لنقل المشاعر التي اختبرتها، أو الرؤى و الأوهام و الهلاوس و الألوان و الأنماط والأبعاد التي كشف عنها عقلي المرتبك.

لقد رأيت وجوه الأصدقاء المألوفين تتحول إلى جماجمٍ خاليةٍ من اللحم و إلى رؤوس ساحراتٍ مرعبات و خنازير و بنات آوى.[4] أما السجادة المنسوجة بتصاميمٍ بهيجة فقد تحولت، تحت قدميّ، إلى كتلةٍ مهولةٍ من المادة الحيّة التي تمور؛ نصفها من الخضار و النصف الثاني من الحيوانات. كانت هناك لوحةٌ عاديةٌ لرأس امرأةٍ و كتفيها رأيتها، دبّت فيها الحياة فجأة. لقد حرّكت المرأة رأسها من جهةٍ الى أخرى، و كانت تنظر لي نظرة فاحصة، فيما كانت تتغير – باستمرار – من إمرأة الى رجل و من رجل إلى إمرأة. أما شعرها و قلادتها، فقد تحوّلا الى عشٍ لآلاف الثعابين الجائعة التي كانت تتقافز لكي تلتهمني. ملمس جلدي تغيّر عدة مرات. بعد أن أمسكت ببطاقةٍ ملونةٍ أحسست بجسدي يختنق تعطشاً للهواء، لأن جلدي تحول الى طلاء. فيما كنت أربّت على كلبٍ أسود، ثقُلَ ذراعي و انبجست منه طبقة كثيفة من الفراء الأسود اللامع.

لقد كنت واقعٌ في قبضة هلوساتٍ مرعبةٍ متكررة، كنت خلالها أشعر بجسدي – و أراه – يتشنج و يتقلص حتى لم يتبقَ منه إلا حجرٌ صلبُ مريضٌ تموضع في الجهة اليسرى من معدتي، محاطاً ببخارٍ أصفرٍ يميل الى الخضرة، انسكب على أرضية الغرفة.

لقد فقد الزمن كل معنى. تقلّصت الساعات الى دقائق، و امتدت الثواني الى ساعات. كانت الغرفة التي تواجدت فيها تتغير مع كل نفسٍ آخذه، و ومضاتٌ غامضةٌ من ضوءٍ ملونٍ كانت تجيء و تروح. مثل المطاط، كانت أبعاد الغرفة تتمدد تارةً و تتقلص تارةً أخرى. الصور، الكراسي، الستائر و المصابيح كانت تتطاير من دون توقف، مثل الكواكب في أفلاكها. أحاسيسي بالشعور، بالشم وبالسمع اختلطت ببعضها البعض؛ بدا الأمر و كأن أحداً قد انتزع الشبكة العصبية لدماغي و المسيطرة على أحاسيسي، ثم أعاد توصيلها من دون اهتمامٍ لسابق تركيبها.

و لكن ساعات جنوني لم تكن مليئة بالرعب و الجنون بالكامل. هناك أحيانٌ راودتني فيها رؤىً من الجمالٍ المبهر، كانت من الهيجان و من الغرابة إلى الحد الذي لا يمكن لأي فنانٍ معه أن يرسمها. لقد عشت في فردوسٍ كانت السماء فيه كتلة من الجواهر المنظومة على خلفيةٍ من الأزرق الزبرجديّ اللامع، و كان لغيومه لون المشمش، و هواؤه مليءٌ بالأسهم الذهبية السائلة و النوافير اللامعة من الفقاعات الملونة، و الدانتيلا المخرّمة المصنوعة من اللؤلؤ و الفضة، غُمُد من أضواء قوس قزح – جميعها تتغير باستمرارٍ في اللون والتصميم و الملمس و الأبعاد، بحيث كان كل مشهدٍ أكثر روعةً من سابقه.

مضى أسبوعان منذ أن قضيت نصف يومٍ كمجنون (لقد بلغ بي الخوف و الحيرة من هذه التجربة كل مبلغ، بحيث أنني ما تمكنت من الجلوس و كتابة سردٍ كاملٍ لما حدث لي إلا الآن. بل حتى هذه اللحظة، فيما أعيش الكابوس مرة أخرى عبر هذه المسافة الآمنة، ما زلت أتوتر و جسدي ينضح بالعرق حتى الآن.

لقد تطوّعت لكي أصبح مجنوناً مؤقتاً من أجل خدمة البحث الطبي القاصد الى تقصيّ إشكالية المرض العقلي. إنها واحدة من مراحل البحث العلمي تلك التي يكون فيها الإنسان هو خنزير غيانا،[5] فالحيوانات لا تستطيع أن تصف مشاعرها.

لقد كان العقار الذي تناولته هو عقار LSD  (Lysergic Acid Diethylamide)، و هو ما يعرف علمياً بقلواني الإرغوت، و هو يتكون من الطبقة السُمّية التي تنبت أحياناً على بذرة حبوب الجودار. منذ سنتين، عندما تم بيع خبزٍ مصنوعٍ من طحين الجودار الفاسد في إحدى القرى الفرنسية، مات كثيرٌ من السكان من التسمم، فيما عانى العديد من هذيان جنونيٍّ شديد. لقد كانت الحالة العقلية التي نجمت عن هذا العقار – الذي تم تحضيره من قبل كيميائيٍّ سويسريّ – تقارب الى درجة كبيرة الشيزوفرينيا الحادة، أكثر أنواع المرض النفسي شيوعاً في كندا و أكثرها جدية. إن حوالي نصف المرضى في مستشفياتنا العقلية يعانون من شكلٍ ما من أشكال هذا العذاب العقليّ الرهيب.

و رغم حقيقة أن علماء النفس قد عرفوا الشيزوفرينيا منذ حوالي خمسين عاماً (و هي التي تسمّى أحيانا الخرف المُبْتَسَر dementia praecox أو الشخصية المنقسمة)، إلا أن معلوماتنا عنها مازالت فقيرة. نحن نعلم أن الضحية يعيش في عالمٍ فوضويٍّ خاصٌ به، يعاني فيه من الهلاوس و الأوهام، و يتأثر منه تفكيره و مزاجه و سلوكه معاً. في بعض الأحيان، يقوم المصابون بالفصام بالانتحار و بالقتل استجابةً منهم لاعتقاداتٍ خاطئةٍ تسيطر عليهم فتتمكن منهم.

أما فيما يتعلق بسبب هذا المرض، فهناك مدرستان رئيسيتان في التفسير. هناك مجموعة أولى – لا سيما مدرسة التحليل النفسي – تميل الى الاعتقاد بأن المصاب بالفصام هو شخص لا يستطيع التأقلم مع صعوبات الحياة فينسحب لذلك الى عالمٍ فانتازيّ من صنع خياله. و هناك مجموعة ثانية تذهب الى أن الشيزوفرينيا هي نتيجة مباشرة لاضطراب اسْتِقْلابِي،[6] تصاب فيه الغدد الداخلية بخللٍ تُربِك معه كيمياء الجسد. و هم يَشِكّون أن المذنب في ذلك هو نظام الغدد الأدريناليني الذي – بطريقةٍ معقدةٍ ما – ينتج مادة سامة تتسبب بالجنون.

إلا أن هذه النظريات ليست حاسمة بالضرورة، فالدكتور هانس سلاي Dr. Hans Selye العالم في جامعة مونتريال أظهر كيف أن التوتر و الإنهاك يمكن أن يؤثرا على وظائف الغدد الداخلية، بما فيها الغدد الأدرينالينية، بحيث أنها قد تنتج مجموعة مختلفة من الأمراض بما في ذلك المرض العقلي.

من خلال خلق حالةٍ مثل الشيزوفرينيا خلقاً اصطناعياً في الإنسان الطبيعي – مثلما كان الأمر في حالتي – فإن الباحثين يأملون بالعثور على إجاباتٍ لجملةٍ من الأسئلة المحيرة. فالمحللين النفسيين يرغبون أن يعرفوا كيف يشعر مريض الفصام؟ ماذا يرى؟ بماذا يفكر؟ كيف يفكر؟ ماهي أفضل طريقة لمساعدته من قبل مُعالِجه؟ إن هذه الاجابات لا يسهل الحصول عليها من قبل المريض المصاب بالفصام المزمن، إذ عادة ما يكون لديه القليل من التبصر، و ربما خلى منه كليةً، كما أنه يصعب التواصل معه عادة.

و يبحث المتخصص في الكيمياء الحيوية عن معلوماتٍ يمكن أن تساعد في إيجاد علاج للشيزوفرينيا بالنهاية: ماهي المادة السامة الموجودة في مريض الفصام والتي يخلو منها جسد الإنسان العادي؟ لو أمكن التعرف على هذه المادة، فإنه من المتصور أن عنصراً كيميائياً ما يمكن أن يصنّع لتعويض هذا النقص، تماماً مثلما أن البنسلين و الأوريومايسين يمكن أن يقضيا على أنواعٍ معينةٍ من الالتهاب. إن ذلك لمما يمكن أن يقود، نظرياً، الى علاج نصف مرضانا العقليين.

بعد أن وصلت تجربة الـ LSD إلى نهايتها أخيراً، وبعد ليلة من الهياج المشفوع بنومٍ خالٍ من الأحلام، كنت أتضوّر جوعاً. أخذت حماماً و لبست ملابساً نظيفة، ثم مررت على مايك كيسترتين (Mike Kesterton) و بعدها أخذنا سيارة أجرة الى ويبيرن (Weyburn). مشيت في الشارع أتطلّع في وجوه المارة و و أطالع واجهات المحلات، مبتهجاً بكوني قد عدت مرة أخرى الى أرض الأحياء. ذهبنا الى المطعمٍ، حيث قضيت هناك على كمياتٍ كبيرةٍ من عصير البرتقال و البيض و الخبز و القهوة. لم يكن قط الطعام أكثر لذة. فكّرت في زوجتي و أطفالي، ثم ذهبت الى الدكّان لأشتري لهم بعض الهدايا.

تحولت أفكاري الآن الى المرضى في مستشفى الأمراض العقلية. لقد كنت محظوظاً، فقد احتملت عذابات الجحيم لإثنتي عشر ساعة فقط، و أنا الآن حر. و لكن ماذا عنهم؟ لقد عانى كثير منهم من المرض العقليّ لمدة خمس، عشر، و حتى خمسة عشر عاماً. كيف تبدو لهم الساعة المفردة المُعذّبة؟ يوم؟ شهر؟ سنة؟ أبدية؟

عدت الى المستشفى و مشيت في أجنحته وحيداً. في الماضي، قضيت في مستشفيات الأمراض العقلية الساعات الطوال بصفتي طالب علم نفس في مجال البحث الاجتماعي و مراقِبٌ في الآن ذاته. ولكنني، في هذا اليوم، رأيت كل شيءٍ بعينين مختلفتين. هناك مريضً بالفصام طويل البنية مشى باتجاهي،  قبض على يدي لبضع لحظات ثم، و من دون أن ينبس ببنت شفة، مضى بعيداً. تذكرت كيف كنت قد قبضت أنا بدوري على يد أوزموند (Osmond) بشكلٍ يائس. من أي دوامةٍ لا قرار لها كان هذا الرجل يهرب؟ كان هناك شاب أشقر في أواخر العشرينيات يقف في حالةٍ أشبه بالغيبوبة، يحدق في ظلٍ على الحائط، مع ابتسامة نشوةٍ تجمدت على وجهه. كم مليون ميلاً كان يبعد عنا؟

 

أملٌ جديدٌ لفاقدي العقل؟

مريضٌ آخر، بوجه يطفح باليأس أخبرني أن سحليةً كانت تعيش في أرجوحةٍ وسط صدره. لقد أنجبت ثلاث سحالي صغار زحفت الى رأسه و أكلت كل دماغه. أي عزاءٍ يمكنني أن أقدّم له؟ هل يمكنني أن أخبره بأن كل هذا هو محض تلفيقٍ من خياله، فيما كان هو يرى الوحوش بألف لونٍ و بُعدٍ و يحس فعلاً بأدنى حركةٍ لها؟ ليس هناك أي تجربةٌ حقيقةٌ لشخصٍ عاديٍ يمكن أن تضاهي شعور هذا المريض بالواقع.

من الزاوية البعيدة للقاعة، كان يمكنني أن أسمع الغناء الرهيب لمريضٍ بالفصام، يعيد مضطرباً:

احترق، أيها الجسد اللعين

احترق أيها الجسد اللعين

احترقي ايتها الأرجل اللعينة

احترق أيها البطن اللعين

احترق أيها الجسد اللعين …

في أي زاويةٍ من الجحيم كان يعيش؟ أي رعبٍ سكن فيه؟ بحداثة تجربتي العائدة الى الأمس، كان يمكنني أن أتخيل ما يمكن أن تكون. في تخيلي هذا، كنت أجفل من الألم.

تركت ويبيرن (Weyburn) مع شعورٍ بالاستعجال. ان نصف طاقتنا السريرية بالمستشفى كانت ملأى بالمرضى العقليين، و نصف هؤلاء كانوا يعانون من الشيزوفرينيا. ما زلنا لا نعرف سبب هذا المرض حتى الآن، و مع ذلك فلدينا أسبابٌ وجيهةٌ للشك بأنه ربما كان يُعزى الى خللٍ في كيمياء الجسد. إن بضع نقاطٍ من العقار غيّرتني، أنا الشخص الطبيعي، فجعلت مني مجنونا، أفلا يمكن إذن أن يكون المصاب بالفصام هو شخصٌ ذو جسدٍ يصنع باستمرار جزيئاتٍ صغيرةٍ من مادة سُمّية مماثلة؟

إن كان الأمر كذلك، فلا يمكن للعلم الا أن يأمل بالتعرّف على المشكلة و التصدّي لها عندما يتوفر التمويل للبحث العلمي بالملايين، و ليس بالآلاف كما هو الوضع حالياً. ينبغي أن نصر على أن يُكرّس – فوراً – الأفضل من أطبائنا و فنيينا و مختبراتنا لإنقاذ مرضى الفصام من هذا الجحيم الأبدي. ليس هناك من هدفٍ أشد ألحاحاً و لا أكثر إنسانية.

أنا أعرف.

 

 

[1] Sidney Katz, ‘My Twelve Hours as a Madman’, Maclean’s magazine, 1 October 1953.

[2] الشيزوفرينيا (Schizophrenia): الفصام.

[3] يمكن الاطلاع على المقال الأصلي هنا: http://www.macleans.ca

[4] Weasel، في النص الاصلي.

[5] يقصد أنه أصبح حيواناً للتجارب.

[6] خللٌ في عملية الأيض (metabolic disorder).